القائمة الرئيسية

الصفحات







قصة قصيرة بعنوان :
أربعية الفقيه



     سارت بخطواتها الصغيرة ، وقدماها تتعثران وسط الحذاء ، تمسك القطعة النقدية بقوة ، وحين تأكدت أنها قد استقرت وسط راحة يدها ، اعتدلت في مشيتها ، وشدت بأصابعها على الحذاء حتى لا ينفلت من تحت قدميها وتسقط أرضا ، فتحذيرات أمها لا تزال ترن في مسمعيها :
- هذه *أربعية* الفقيه ، وهذا الكيس وضعت فيه قطعة سكر وحفنة شاي قرطسْتُها جيدا ،  وكسرة خبز أبيض وكأس زجاج ، انتبهي وإياك أن تركضي ، حتى لا تكسريها وتضيِّعي الأربعيّة...إياك
تأكدت من الأربعية أنها لا تزال وسط راحتها ، هي عشر ريالات تجمعها قطعة نقدية صفراء، معدنية سميكة عليها كتابات وخطوط لم تتجرأ يوما على فك رموزها ، بقدر ما كانت حريصة على إيصالها الى يد الفقيه بالجامع خارج الحارة ..
هذا دأبها وجميع أولاد الحارة ، كل يوم أربعاء ، يحملون إلى الفقيه أربعية وسكرا وحبات شاي أخضر ، وبعد  أن يفرغوا من ترديد بعض السور القصار  من القرآن ثم استظهارها بين يدي فقيه الجامع  يقوم هو ومساعده بإعداد الشاي مما جمعوه من الأولاد والبنات ، فيمد كل طفل كأسه ، ويشدها بكلتا يديه  والفرحة تغمره ،  ليقوم الفقيه بملئ كأسه بالشاي الساخن ....كان صدرها ينتفض فرحا ، فكأسها مملوءة هذه المرة و ستتناول خبزا أبيض أفضل من خبز صديقتها رحمة التي تقضم خبز الشعير الأسود ...
كانت جدران الجامع من الطين الأحمر ، ينفتح بابه الرئيسي على ساحة واسعة ، باب من الخشب ، تتوسطه دقّاقة *خرصة* نحاسية معدنية ، وتزينه دبابيس فضية ضخمة برؤوس مقببة، حفرت على أضلاعه نقوش جميلة لآيات قرآنية ، تشده شداًّ كما تشد بنيان الجامع فيبدو قويا متينا ، باب لا يمكن لها ولا لرفيقاتها الاقتراب منه ، فالجامع لا يدخله إلا الرجال والأطفال الصبيان ، كم كانت تتباطأ في سيرها حتى يشرع المصلون في الصلاة ، لتمر أمامه وتختلس النظر الى الداخل ، محاولة أن تستكشف هذا العالم الممنوع عليها وعلى قريناتها ......وهناك وعلى الطرف الآخر من الجامع ، وعبر ممر ضيق ، يجوز لها ولصديقاتها المرور عبره ليصلن الى *المسيد* وهوكُتّاب الجامع ، فيه يتم تحفيظ القرآن لأطفال الحي ...غرفة طويلة مسقفة بألواح خشبية يتم حشو ما بينها بالطين الاحمر والتبن ، جدرانها عالية ، وفي كل جدار نوافذ مربعة غير نافذة ، يضع فيها الصغار ألواحهم الخشبية ، وأقلام من أعواد القصب  وقنينات الحبر وقطع *الصمغ*وأحجار الصلصال  ......
كانت عملية الكتابة على الألواح  متعتها الأثيرة ، فبعد أن يتمكن الصبي أو الصبية من حروف الهجاء ( أَبَتٍ، ثَجَحٍ ،خَدَذٍ ،رَزَطٍ ، ظَكَلٍ ، مِنَصٍّ، ضَعَغٍ ، فَقَسٍ ، شَهَوٍ ، لِأَيٍّ )، يواصل رحلته مع اللوحة  والعلم ، فكانت لوحتها عالمها الجميل ، تخط بالقصبة والحبر أول حروف البسملة ، فتنسج أناملها أجمل الحروف وأبهاها ، وما أن أتمت كتابة سورة الإخلاص ، حتى نوّه الفقيه بعملها وببهاء حرفها على اللوح الخشبي ، فتحضنه وتحفظ وتعيد الترتيل وتكرر بنبرة طفولية عذبة ، تسبي العقول قبل الأسماع ....لقد كان صباح كل  يوم الخميس هو موعد مسح الألواح وغسلها بالماء ،  فيقوم كل طالب حفظ ما على لوحته ، يعيد طلاءها بالصلصال الممزوج بالماء ، ويعرضها خارج *المسيد * لأشعة الشمس ، فيقبع الصغار أمام ألواحهم ينتظرونها أن تجف ....
كم كانت تستهويها لوحتها والصلصال يجف على سطحها فتُحيله حرارة الشمس من لون رمادي غامق الى رمادي فاتح ، يُغريها بكتابة سورة جديدة ، ويشوقها الى مداعبة قلمها القصبي للوحتها الغضّة .....
قال لها الفقيه يوما ، بعد أن اعتدل في جلسته وتنحنح :
آه يا خديجة بنت حمادي ، كم يفرحني أنك قد حفظت ثمن الكتاب ، وتجيدين ترتيله ، وتحسنين  كتابته بأجمل خط ....سنفتقدك يوما يا بنت حمادي .....
وقع كلامه على قلبها كالصاعقة ،
متسائلة :
-لمَ يلمّح الفقيه ؟؟؟ لِمَ سيفتقدني يوما ؟؟؟ هل سيسافر إلى الحج ويطول غيابه ؟ كما فعل جدي ؟ أم أنه سيغادر حارتنا والجامع إلى وجهة أخرى ؟؟؟
لم تسترسل في تساؤلاتها ، ولا اهتمت بقوله اهتماما ، ولكنها حرصت على الترديد والحفظ وتجويد الكتابة ...
كم كان والدها يطربه شجوها بالآيات وسط الدار ، تتنقل من حجرة إلى أخرى وتنط وتقفز وهي تردد:
*إذا زلزلت الأرض زلزالها .....
*إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة.....
*الرحمن ..علم القرآن ، خلق الإنسان ، علمه البيان......
وأمها تكرر خلفها *فبأي آلاء ربكما تكذبان ***
كل هذا كان يسعد والديها ، و ترفرف أرواحهما طربا بصوتها ، فلم تبلغ العاشرة بعد ، وهاهي خديجة ، من دون بنات الحارة تحفظ جزءا مهما من القرآن ، بل تفوقت على صبيان الحارة ....
كانت تفعل كل ذلك ، وقريناتها يلعبن لعبة الحَجَلة أو يزيّن الدمى القصبية ويتبادلن الخرز والحلي ويتفنّن في ضفر شعورهن ...لم يكن يشغلها غير عودة والدها من عمله ، على متن دراجته ، وعليها كومة ضخمة من الحشائش اليابسة ، يجلبها قبل مغرب كل يوم من  بستان الرجل الفرنسي * النصراني* ، الذي يرعى حقله وبستان بيته ، هناك بعيدا خارج المدشر  وعلى طريق الدار البيضاء .....تسمع صوت دراجته قادمة من بعيد ، فتقوم نحو مدخل الدار تستقبله ويسألها عم حفظته من سور ، ويمد إليها أربعية الفقيه ليلة كل ثلاثاء ، فتسلمها إلى أمها ، التي تعمل على وضعها في كيس ، استعدادا ليوم  الحفظ والاستظهار  أمام الفقيه ، والاحتفال بكأس شاي وخبز حاف ، وتسليم القطعة النقدية للفقيه مقابل جهده .....
تساعد أباها على فتح باب "الحوش "خلف الدار ، وهناك زوج معز وخروفان ، يلقي إليها ببعض الحشائش التي جلبها من حقل* النصراني* فتلمحه يخرج من الكومة الخضراء ، المائلة الى الصفرة ، قطعة قماش وقد لُفّت بشيء صلب ، لا يبدو منه إلا أنه بحجم يد أبيها .....وما أن يصبح صباح يوم الجمعة حتى تجد أمها في المطبخ تخبز العجين ، وتؤكد عليها أن تحمل لوح الخبز إلى الخباز ( بّا حمّاد)......
تنتظر إلى جانب أمها وهي تحمل بين أصابعها عودا يابسا ، تخط به حروفا على الأرض ،والخبزتان بين يدي أمها وبخفة متناهية ، تتخذان شكلا دائريا ، وما أن تنشغل للحظة عنها حتى تضع أمها العجين قطعتين متساويتين فوق قماش يغطي * الوصلة* وهو لوح خشبي مستطيل ، مخصص لنقل الخبز إلى فرن الحارة .....ثم تقوم بوضعه وتثبيته على رأسها .
ولكن صباح ذلك اليوم لفت انتباهها أن أمها قد حشت خبزة بقطعة بحجم يد أبيها ، ولكنها لم تسأل عن ذلك ، بل حملت *الوصلة* فوق رأسها مستقيمة تسير بخطى ثابتة ، لقد مر عسكريان فرنسيان جانبها ، ولمست يد أحدهما  قطعة القماش التي تغطي العجين على رأسها ، أرعبها وقع حذائهما ، وخفق قلبها حين لمحت عيناها ظلهما ، ولكنها قرأت المعوذتين في همس مسموع ، وهي تسير إلى  أن بلغت باب الفرن ، فتلقف منها الخباز اللوحة والخبز ، ودخل الى حجرة داخلية ، بعيدا عن العيون ، ليعود بالوصلة بين يديه ، وعليها خبزة واحدة ....استغربت أمره وهو أمام فرنه يرمي بالخبز إلى النار ،
تساءلت : أين الخبزة الثانية ؟
نهرها الخباز : اذهبي ...عودي إلى المنزل ، الجنود الفرنسيون يحومون اليوم بجميع الحارات قبل صلاة الجمعة ، سيعترضون طريقك ....اذهبي ..
ركضت غير مهتمة مرة أخرى . ويمضي يوم الجمعة ككل يوم عطلتها الأسبوعية ، تتناول العائلة بِرمّتها وجبة الكسكس التي تعدها النساء ، طبق قوامه  دقيق السميد المبخر ويسقى بمرق منسم بالقرفة ومعسل بالبصل  و الزبيب ، فيسكب هذا المرق ذي اللون الذهبي  على قطع لحم الخروف الطرية تغطيه جبال من الحمص.....وجبة  الكسكس هذه ، تقدم للرجال والصبيان أولا ، بعد العودة من صلاة الجمعة ، أما النسوة فيكون نصيبهن مما أكلوا ، بل يتبركن من صحنهم لأنه - وكما يعتقدن- قد تناولت منه أفواه رتلت القرآن وصلت الجمعة في جامع الحارة .....كم كان يبدو لها الأمر غريبا ....وهي التي لا تفارق كُتّاب الجامع ولا تتوقف شفتاها عن ترديد كلام الله وحفظه ، أم لأنها لا تدخل الجامع ....وأن البركة تأتي منه لا من الكتاب أو المسيد .... أم لأنها ليست صبيا ....
تراودها هذه الأفكار مرة  ، ولكنها تتركها لمرات كثيرة حتى لا تشوش عليها ترديدها وحفظها للآيات المتبثة على لوحها الخشبي .
كانت تلك الليلة ، لا ... ككل الليالي ، لقد تأخر والدها عن العودة ، كما أن الخبز لا يزال في الفرن ، وأمها لم ترسلها لتبحث عنه ، ولكنها ألحت عليها أن تقرأ الكثير الكثير من السور التي تحفظها ..وما أن شرعت ترتل :
*إذا زلزلت الأرض زلزالها ...
حتى زلزل جسدها وانتفض لذاك الطرق العنيف  ، اهتز له جسد الأم وركضت تفتح الباب ، فإذا بيد تدفعها نحو الداخل وترمي بها أرضا وبصوت أجش مرعب صاح مجلجلا :
-أين ذاك الوغد الذي يُهرّب السلاح ؟....ويقتل به عساكرنا ؟!
أين ذاك الخائن المدعو حمادي الدرويش .....
أين زوجك ....يا امرأة ؟!
التصقت بالجدار خلف باب الغرفة ، وأنفاسها تكاد تتوقف ، لم تعد تلمح أمها ولكن الجنود الفرنسيين ، قلبوا الدار رأسا على عقب ......وأخرجوها وأمها إلى الخارج وألقوا بهما  بين نسوة الحارة ، واقتادوا الرجال .....علا الصخب والصراخ ،واختلط العويل بالنواح ....وتذكرت كلام فقيه الجامع حين قال لها :
-" سنفتقدُك يوما ...يا بنت حمادي"
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع