قراءة نقدية
بقلم الكاتبة نور الزهراء من العراق
في قصة قصيرة بعنوان : الزنزانة رقم 67
بقلم الاستاذة الزهراء وزّيكٌ
عنوان يوحي بالظلمة والاندثار ويبث الخوف ، ولم يترك مجالا لاحتمالات ودلالات أُخَر تنفس الصعداء للقارئ ، اذ افصحت الكاتبة عنها واطلقتها جهارا بصيغتها الاسمية الثابتة المرقمة المرمزة ( الزنزانة٦٧) اذ لم ترد الكاتبة للقارئ ان يضيع في دوامة الدلالات والرمز .فجذبته ليقف امام جدرانها لمعرفة مايدور خلفها سؤالا ملحا من ؟ ولماذا ؟ وكيف ؟
فانارت الكاتبة ظلمة الزانزانة بطريقتين ماهرتين هما :
الأول / الصباح عندما يبدأ ببسط كفيه بعد انقباض الليل ، لتكون الرؤيا واضحة ؛ فعتمة المكان لا تقل عن عتمة الليل السادر شيئا .
الثاني / السارد للقص ، إذ رسمت لنا الكاتبة ( ساردا ) أجاد الوصف أيما اجادة نقل القارئ الى ارجاء الزنزانة كتصوير فوتغرافي حي مباشر بعدسة مكبرة تدور رصدت لنا المكان والشخص .
السرد / كان سردا وصفيا بامتياز اذ رصدت الكاتبة وصف المكان والسجين كشاهد عيان ، لم تغادر صغيرة ولاكبيرة فيهما شقوق الجدران الصغيرة وادق تفاصيل السجين الذي لا يتذكر من واقعة سوى العربة التي جاء بها لم يعرف سوى صوت عجالاتها الدائرة واصوات انين اضفت على المكان ظلمة فوق ظلمة عصابة عينيه .
المكان / اختصرت الكاتبة ببراعة اوطان شاسعة تحت وطأة أربعة جدران عفنة مظلمة ارداها ساسة الغدر والخذلان فارزخها الظلمة وغياهب النسيان في قعر الظلم والاستبداد.
الزمان / دارت احداث القص في زمان مصيري ، زمن اجهض قبل رؤية النور ، زمن الخذلان والغدر ، زمن جر اذيال الحسرة متبعة بالآلام ، تقودها الخيبة للمجهول لديهم للمعلوم عند المستبد .
لقد اختزلت الكاتبة نكسة ( 67 ) بين فكي زنزانة وسجين بذر أمل وجنى خيبة ، زرع ثورة وحصد نكسة ، خرج فتيا ثائر عاد واهنٍ سجين مقيد باغلال الهزيمة معصوب بالغلبة ، ألقى به الغدر في غياهب السجون .
الخاتمة / كانت قفلة رائعة خطت الوانها الكاتبة بريشة فنان عاشق للفن وهبه الله الابداع ، ( كلما رفعت رأسي جذبتني دوامة فارغة نحو كلمة محفورة..... حروف ( و ط ن ) احجية حاول السجين فك رموزها ، مثلت حال الوطن والبلاد والخلاص من قعر النكسة ، امر صعب المنال ، لا يفقه منه شيئا ، لان الوطن الذي يحاول فك رموز احجيته بيع بمزاد الخذلان والغبن لذلك كان السجين ( يغلق عينيه وينام) عله يجد السلام .
وأخيرا / بورك للكاتبة المغربية يراعها الفذ ولغتها المميزة الطيعة بين اناملها ، كاتبة متمكنة بجدارة احكمت امساك عناصر القص وطيعتها وصهرتها ببوتقة واحدة فانتجت لنا ( الزنزانة٦٧) قصة قولبت واقعا معاشا مريرا ، توهجت ملامحه بأول خيط صباحي .
مبارك للكاتبة المغربية صاحبة اليراع القصصي الوصفي فوزها بالمركز الأول نالت المركز بعناصر السرد المميز.
قصة قصيرة بعنوان :
الزنزانة رقم 67
ويتسرب أول خيط من نور الصباح ليكشف عن غرفة ضيقة ، وقد اعتلى جدارها الشمالي نافذة صغيرة تمّ حشوها بالطوب الأحمر والاسمنت ، مخلفا شقوقا مائلة متكسِّرة ؛ تخترقها أشعة الشمس لتغمر المكان بحرارة تختلط برطوبة عتيقة ....
أتحسس جسدي عدة مرات ، ألمس صدري الذي لا يتوقف عن الانتفاض كانتفاضة طائر جريح ،
أحاول أن أفتح عيني ، لكن ذاك الخيط من شعاع الشمس ، يحجب عني الرؤية ، كان وميضه وسط الزنزانة كوميض سيف بتار يخترق رأسي ويحفر جبهتي التي حفرتها قطرات الماء التي قضيت تحت رحمتها سنوات ، تسقط على جبهتي وأنا مقيد إلى سرير حديدي ، فما أن تسطع الشمس كل صباح وتخترق هذه الشقوق حتى ترتفع حدة التنقيط في أوصال رأسي..... إلى أن تحولتُ إلى جسد مكوم فوق هذا السرير الصدىء الذي تهالك، ومن تحتي مرتبة تآكلت فأبدو تحت الغطاء الرمادي كومة من العظام لا تميز منها إلا رأسا صغيرة ، تتحرك في ثقل شديد ، أحاول أن أفتح عيني المغروزتين بين فكين حادين ، وبصعوبة أرسل بصري نحو السقف حيث تلتقي الجدران الأربعة ، فأحس وكأنني في قاع بئر عميقة ، وأنا ممدد على ظهري يبدو الجدار أمامي جد مرتفع ؛ أتنقل ببصري حول رسومات وخطوط غير مفهومة إلى أن أتوقف عند لوحة باهتة وقد تقشر طلاؤها ؛ إلا ما رسم منها بالأسود ،شكل منجل يلتف حول مطرقة في عناق طويل ، وما أن يقع بصري عليهما أدقق النظر في اللوحة الخشبية أكثر ، حتى أغلق عيني الصغيرتين بقوة وكأن تلك المطرقة تنهال على رأسي فأميل بجسدي نحو اليسار فألويه فوق الغطاء من تحتي لأبدو كمنجل معقوف وقد علاه الصدأ . أشد على شفتي في ألم ، بأسنان صفراء متآكلة ويداي حول بطني الضامر أبحث بهما عن جسد ضاع مني منذ زمن طويل .
وبعد أن أطمئن الى وضعي الجديد على السرير أتنفس الصعداء ببطء ، ثم أعاود النظر نحو الجدار المرتفع من الناحية المقابلة له ، فيرتفع بصري لتلوح لي أرقام كثيرة ( ١٩٦٩ _ ١٩٦١_ ١٩٤٨ _ ١٩٧٣ _ ١٩٦٧.........) والارقام لاتنتهي ...
فجأة يتوقف بصري على كلمات قد خُطّت على الجدار ، مرة بالطبشور الجيري القديم ومرة أخرى بالفحم الأسود ...( الثورة ، تحيا الحرية ، والجماهير الشعبية ، الوطن ، الخونة، لتسقط......ليسقط .....)
وكلمات هنا وهناك تغطي الجدار وتمتد بينها خطوط ورموز رقمية غير مفهومة ....فأتوه بين كل هذا الزخم الذي تكشف عنه خيوط شمس الصباح ورائحة الرطوبة التي تزكم أنفي فأهرب بعيني نحو السقف المتهالك وخيط المصباح القديم يتدلى منه كأنه حبل مشنقة؛ وقد شُنقت عليه أجساد تتراءى لي كلما حلّ الظلام وسكن الغرفة .
يبقى بصري عالقا بالسقف ، فأسمع الصوت المعهود ، حادا مناديا ( تسعة وستون ، ثمانية وأربعون ، سبعة وستون ...هيا تحركوا نحو الساحة ....هيا ) وصرير المفاتيح تخترق الأبواب؛ أصوات تعودت عليها كمذاق الطعام الذي يرافقها ؛ حساء مجهول الهوية ، لا أحد يستسيغه ولكنه مع الزمن أصبحت الوجبة الوحيدة التي أنتظرها وتملأ بطون تلك الأجساد التي اعتدت رؤيتها تجوب ساحة القلعة جيئة وذهابا .
بعد قليل سأخرج إلى ساحة القلعة ، لأداء دورة تحت أشعة الشمس ، فأجر السلاسل الصدئة بين قدمي ، وقد حفرت كعبي واتخذت لها فيهما موضعا بين العظام إلى أن أصبحت جزءا منها .
فأسير في الممر لأصادف وسط ساحة القلعة هياكل عظمية مثلي يكاد بعضها يلامس الأرض من فرط انحنائها ،ألمح بعض الوجوه وقد ضيّعت ملامحها ولم أعد أتذكر من هم أصحابها ، والبعض الآخر قد اختفى ولم يعد ألتقي به كسابق عهدي بهذه القلعة وسط صحراء مجهولة لا تفضحها الا شمسها الحارقة، وجوه لا أتذكر كيف جمعتنا الأقدار ...
كل ما أتذكره هو ، أنني كنت شابا قويا تتقد عيناي حماسا ، ولكن منذ تلك الليلة حين وجدت نفسي على متن عربة شاحنة ، معصوب العينين ، لا أميز منها غير محركها وهي تقطع طريقا موحشا لاينتهي ، وبين الحين والاخر أحس بأنفاس حولي تارة ، وبأجساد تئن تارة أخرى ؛ فما أن أزاحوا عني العصابة حتى أحسست بان ذاك الشعاع في عيني قد خبا ، فبهت لون وجهي فأحالته رطوبة الزنزانة صفرة تخالطها خضرة ، وكأنني قطعة اسفنج تعفنت في بركة ماء ضحل ....تحت قطرات الماء ....
وكلما رفعت عيني نحو السقف ، جذبتني دوامة فارغة نحو كلمة محفورة حول خيط المصباح المعلق على شكل حروف مجزأة [ و - ط - ن ] ....أنظر وأدقق النظر محاولا فك طلاسمها ....فلا أفلح ؛ وأمام كل محاولة فاشلة أحس بطعم مرارة الغبن والخذلان ....فأخلد الى النوم ....
تعليقات
إرسال تعليق