قراءة نقدية
بقلم الكاتب العراقي مازن الحسيني
في قصة قصيرة بعنوان الزنزانة 67
بقلم الاستاذة الزهراء وزّيكٌ من المغرب
(دعانا قلم الكاتبة " زهراء وزيك "لرحلة وطن كي نسبر اغواره ونغوص في اعماقه وتفاصيله
قدمت لنا برنامجاً للرحلة ابتداءا بالتذكرة وهي عنوان الرحلة " الزنزانة رقم ٦٧ "
وانتهاءاً بخاتمة الرحلة التي توعدنا فيها الكاتبة باننا سنتذوق خلالها طعم مرارة الغبن والخذلان !!
وما بينهما الكثير من المحطات التي ستقابلنا ..
وما بين الرقم ٦٧ والخذلان دلالات ايحائية ذكية وملفتة لنظر القارئ ومثيرة لتساؤلاته .
اول الرحلة هو الخيط الاول من نور الصباح المتسرب الذي يلقي الضوء على غرفة ضيقة ليست سوى زنزانة اشبه بوطن مصغر
حُجب عنه نور العلم والمعرفة من خلال حشو النافذة الوحيدة الموجودة في اعلاه بالطوب الاحمر والاسمنت مخلفا بصيصا ضئيلا من الضوء والامل لدى ساكنيه .
التفاتة ذكية من الكاتبة حينما تشير الى ساكن تلك الزنزانة والتي تكلمت بلسانه كيف ان قطرات الماء النازلة قد حفرت جبهته في اشارة الى اقوى واصعب التعذيبات الجسدية التي لا تخطر على بال احد ، وهذا التعذيب لا يتحقق مبتغاه الا بتثبيت الراس ونزول قطرات الماء على نقطة معينة من راس المعذب وتلك ايحاءة بان ساكني ذلك الوطن قد اصيبوا بالانجماد والخمول واليأس قسرا .
" ويحفر جبهتي التي حفرتها قطرات الماء التي قضيت تحت رحمتها سنوات .. "
كلمة " ويحفر " اراها غير مناسبة
وكان الافضل استخدام كلمة ومعنى آخر كمثال
" وينخر جبهتي او
ويشق جبهتي التي حفرتها قطرات الماء ... "
نعود لرحلتنا وتسليط الضوء اكثر فيما يدور داخل هذه الزنزانة الوطن ، لتصف ساكن الزنزانة كأنه جسد مكوم لا حول له ولا قوة فوق سرير متهالك صدئ
وكلاهما متنافران لا يطيق بعضهما البعض
نجحت الكاتبة في تصوير ووصف ساكن هذه الزنزانة فما هو الا كومة من العظام لا تميز منها الا رأسا صغيرة تتحرك في ثقل شديد
وفي لحظة ما تتجلى له الصورة حينما ينظر بكل الصعوبة الى الاعلى حيث السقف وگانه شاشة للعرض السينمائية سيرى فيها الساكن كل ما دار داخل محيط الجدران الاربعة
اول مشاهداته وانطباعاته كانت في احساسه وكانه في قاع بئر عميق .. بعدها يجول البصر في الجدران العالية المحيطة به حيث الخطوط والرسومات الغير مفهومة لتستوقفه لوحة خشبية باهتة على احد جدرانه
كل الالوان فيها قد تقشر الا ما رسم منها بالاسود مرسوم فيها المنجل وهو ملتف مع المطرقة في عناق طويل
من التشبيهات الرائعة التي استخدمتها الكاتبة هو ضربات المطرقة التي تنهال على راس الساكن ليميل يسارا الى الشيوعية والاشتراكية ليبدو جسده النحيل كمنجل معقوف صدئ في ايحاءة جميلة جدا
يعود فيلتفت السجين الى الجدار المقابل ليرى كتابات ورسومات اخرى مغايرة وكأن الكاتبة تريد ان تقول ان هذا الوطن المصغر قد مرت به الكثير من الحركات والاتجاهات الشعبية التي لم تستطع كسر قضبان الزنزانة الكبيرة
ينظر ساكن الزنزانة الى الجدار المقابل ليرى ارقام تشير الى سنوات محددة
١٩٤٨ _ ١٩٦٧_ ١٩٧٣_ ١٩٦١
١٩٦٩ والارقام لا تنتهي
اشارات ودلالات الى التيارات القومية وخيبات ونكسات العرب وحروبها الخاسرة مع اسرائيل
ليعود السجين فتستوقفه كلمات مخطوطة بالسواد
( الثورة ، تحيا الحرية ، والجماهير الشعبية ، الوطن ، الخيانة ،
لتسقط ... ليسقط .... )
في اشارات الى التيارات اليمينية
ودعواتها الى الحرية والاممية بعيدا عن القومية
كل تلك الرسومات والمخطوطات والاتجاهات الفكرية المتناقضة رسمتها الكاتبة بعناية من خلال نظر ساكن الزنزانة
لتختم الجولة البصرية من المشاهد القاتمة التي اخذنا الساكن فيها ليعيدنا الى السقف ثانية بعد ان كشفت اشعة الشمس عما كان مخفيا
لنرى ان خيط المصباح القديم المتدلي من السقف كأنه حبل مشنقة مرت جميع الاتجاهات الانفة الذكر من خلاله
ليستيقظ الساكن بعدها على صوت بعيد ينادي ( تسعة وستون ، ثمانية وااربعون ، سبعة وستون ...هيا تحركوا نحو الساحة ... هيا )
وكأن الكاتبة تريد ان تخبرنا اننا نجتر خيباتنا ولم نستطع تجاوزها لحد الان وكأن السجان يتعمد تقديمها الينا كوجبة وحيدة ولا غير ..
قُدمت الوجبة وتناولها الجميع ،
بكل اتجاهاتهم المختلفة ، وكلهم سيأكلون من نفس الطعام !
وجبة ليس لها مذاق وغير مستساغة مجبرون ومتعودون عليها في التفاتة الى النظام الجاثم على صدور ابناءه باختلاف مشاربهم وافكارهم .
قبل الخاتمة تخبرنا الكاتبة على لسان سجينها انه لا يتذكر شيئا سوى انه كان شابا يافعا ثوريا يتقد حماسة واندفاعاً
وجد نفسه معصوب العينيين مقيد اليديين في شاحنة تقوده الى المجهول .
تختم الكاتبة رحلتها
بالنظر الى فوق ، من خلال عيني السجين ، حيث السقف
المتهالك لتجذبه دوامة فارغة تدور وتدور حول حروف مجزأة حفرت حول خيط المصباح المعلق وكأن هذا الوطن ايضا قد التف حبل المشنقة حوله وجزأه الى احرف مقطعة متشرذمة
ولن يستطيع جمعها رغم محاولاته الكثيرة فيخلد الى النوم بعد كل خذلان وهزيمة .
كنت اود ان تضيف الكاتبة وتشير الى بعدٍ رمزيٍ رابعٍ للتيارات الدينية حالها حال التيارات والاتجاهات الاخرى .
قلم باذخ لكاتبتنا الالقة زهراء واتمنى لها كل التوفيق في كتاباتها القادمة .
واليكم نص القصة القصيرة التي تمت دراستها ونقدها بقلم ذة .الزهراء وزّيكٌ.
قصة قصيرة بعنوان :
الزنزانة 67
بقلم الاستاذة الزهراء وزّيكٌ من المغرب
ويتسرب أول خيط من نور الصباح ليكشف عن غرفة ضيقة ، وقد اعتلى جدارها الشمالي نافذة صغيرة تمّ حشوها بالطوب الأحمر والاسمنت ، مخلفا شقوقا مائلة متكسِّرة ؛ تخترقها أشعة الشمس لتغمر المكان بحرارة تختلط برطوبة عتيقة ....
أتحسس جسدي عدة مرات ، ألمس صدري الذي لا يتوقف عن الانتفاض كانتفاضة طائر جريح ،
أحاول أن أفتح عيني ، لكن ذاك الخيط من شعاع الشمس ، يحجب عني الرؤية ، كان وميضه وسط الزنزانة كوميض سيف بتار يخترق رأسي ويحفر جبهتي التي حفرتها قطرات الماء التي قضيت تحت رحمتها سنوات ، تسقط على جبهتي وأنا مقيد إلى سرير حديدي ، فما أن تسطع الشمس كل صباح وتخترق هذه الشقوق حتى ترتفع حدة التنقيط في أوصال رأسي..... إلى أن تحولتُ إلى جسد مكوم فوق هذا السرير الصدىء الذي تهالك، ومن تحتي مرتبة تآكلت فأبدو تحت الغطاء الرمادي كومة من العظام لا تميز منها إلا رأسا صغيرة ، تتحرك في ثقل شديد ، أحاول أن أفتح عيني المغروزتين بين فكين حادين ، وبصعوبة أرسل بصري نحو السقف حيث تلتقي الجدران الأربعة ، فأحس وكأنني في قاع بئر عميقة ، وأنا ممدد على ظهري يبدو الجدار أمامي جد مرتفع ؛ أتنقل ببصري حول رسومات وخطوط غير مفهومة إلى أن أتوقف عند لوحة باهتة وقد تقشر طلاؤها ؛ إلا ما رسم منها بالأسود ،شكل منجل يلتف حول مطرقة في عناق طويل ، وما أن يقع بصري عليهما أدقق النظر في اللوحة الخشبية أكثر ، حتى أغلق عيني الصغيرتين بقوة وكأن تلك المطرقة تنهال على رأسي فأميل بجسدي نحو اليسار فألويه فوق الغطاء من تحتي لأبدو كمنجل معقوف وقد علاه الصدأ . أشد على شفتي في ألم ، بأسنان صفراء متآكلة ويداي حول بطني الضامر أبحث بهما عن جسد ضاع مني منذ زمن طويل .
وبعد أن أطمئن الى وضعي الجديد على السرير أتنفس الصعداء ببطء ، ثم أعاود النظر نحو الجدار المرتفع من الناحية المقابلة له ، فيرتفع بصري لتلوح لي أرقام كثيرة ( 1969 _ 1961_ 1948 _ 1973 _ 1967.........) والارقام لاتنتهي ...
فجأة يتوقف بصري على كلمات قد خُطّت على الجدار ، مرة بالطبشور الجيري القديم ومرة أخرى بالفحم الأسود ...( الثورة ، تحيا الحرية ، والجماهير الشعبية ، الوطن ، الخونة، لتسقط......ليسقط .....)
وكلمات هنا وهناك تغطي الجدار وتمتد بينها خطوط ورموز رقمية غير مفهومة ....فأتوه بين كل هذا الزخم الذي تكشف عنه خيوط شمس الصباح ورائحة الرطوبة التي تزكم أنفي فأهرب بعيني نحو السقف المتهالك وخيط المصباح القديم يتدلى منه كأنه حبل مشنقة؛ وقد شُنقت عليه أجساد تتراءى لي كلما حلّ الظلام وسكن الغرفة .
يبقى بصري عالقا بالسقف ، فأسمع الصوت المعهود ، حادا مناديا ( تسعة وستون ، ثمانية وأربعون ، سبعة وستون ...هيا تحركوا نحو الساحة ....هيا ) وصرير المفاتيح تخترق الأبواب؛ أصوات تعودت عليها كمذاق الطعام الذي يرافقها ؛ حساء مجهول الهوية ، لا أحد يستسيغه ولكنه مع الزمن أصبحت الوجبة الوحيدة التي أنتظرها وتملأ بطون تلك الأجساد التي اعتدت رؤيتها تجوب ساحة القلعة جيئة وذهابا .
بعد قليل سأخرج إلى ساحة القلعة ، لأداء دورة تحت أشعة الشمس ، فأجر السلاسل الصدئة بين قدمي ، وقد حفرت كعبي واتخذت لها فيهما موضعا بين العظام إلى أن أصبحت جزءا منها .
فأسير في الممر لأصادف وسط ساحة القلعة هياكل عظمية مثلي يكاد بعضها يلامس الأرض من فرط انحنائها ،ألمح بعض الوجوه وقد ضيّعت ملامحها ولم أعد أتذكر من هم أصحابها ، والبعض الآخر قد اختفى ولم يعد ألتقي به كسابق عهدي بهذه القلعة وسط صحراء مجهولة لا تفضحها الا شمسها الحارقة، وجوه لا أتذكر كيف جمعتنا الأقدار ...
كل ما أتذكره هو ، أنني كنت شابا قويا تتقد عيناي حماسا ، ولكن منذ تلك الليلة حين وجدت نفسي على متن عربة شاحنة ، معصوب العينين ، لا أميز منها غير محركها وهي تقطع طريقا موحشا لاينتهي ، وبين الحين والاخر أحس بأنفاس حولي تارة ، وبأجساد تئن تارة أخرى ؛ فما أن أزاحوا عني العصابة حتى أحسست بان ذاك الشعاع في عيني قد خبا ، فبهت لون وجهي فأحالته رطوبة الزنزانة صفرة تخالطها خضرة ، وكأنني قطعة اسفنج تعفنت في بركة ماء ضحل ....تحت قطرات الماء ....
وكلما رفعت عيني نحو السقف ، جذبتني دوامة فارغة نحو كلمة محفورة حول خيط المصباح المعلق على شكل حروف مجزأة [ و - ط - ن ] ....أنظر وأدقق النظر محاولا فك طلاسمها ....فلا أفلح ؛ وأمام كل محاولة فاشلة أحس بطعم مرارة الغبن والخذلان ....فأخلد الى النوم ....
تعليقات
إرسال تعليق