القائمة الرئيسية

الصفحات

                                      

قصة قصيرة بعنوان : الزنزانة رقم 67



     ويتسرب أول خيط من نور الصباح ليكشف عن غرفة ضيقة ، وقد اعتلى جدارها الشمالي نافذة صغيرة تمّ حشوها بالطوب الأحمر والاسمنت ، مخلفا شقوقا مائلة متكسِّرة ؛ تخترقها أشعة الشمس لتغمر المكان بحرارة تختلط برطوبة عتيقة ....
أتحسس جسدي عدة مرات ، ألمس صدري الذي لا يتوقف عن الانتفاض كانتفاضة طائر جريح ، أحاول أن أفتح عيني ، لكن ذاك الخيط من شعاع الشمس ، يحجب عني الرؤية ، كان وميضه وسط الزنزانة كوميض سيف بتار يخترق رأسي ويحفر جبهتي التي حفرتها قطرات الماء التي قضيت تحت رحمتها سنوات  ، تسقط على جبهتي وأنا مقيد إلى سرير حديدي ، فما أن تسطع الشمس كل صباح وتخترق هذه الشقوق  حتى ترتفع حدة التنقيط في أوصال رأسي..... إلى أن تحولتُ إلى  جسد مكوم فوق هذا السرير الصدىء الذي تهالك،  ومن تحتي مرتبة تآكلت فأبدو تحت  الغطاء الرمادي كومة من العظام لا تميز منها إلا رأسا صغيرة ، تتحرك في ثقل شديد ، أحاول أن أفتح عيني المغروزتين بين فكين حادين ، وبصعوبة أرسل بصري نحو السقف حيث تلتقي الجدران الأربعة ، فأحس وكأنني في قاع بئر عميقة ، وأنا  ممدد على ظهري يبدو الجدار أمامي جد مرتفع ؛ أتنقل ببصري  حول رسومات وخطوط غير مفهومة إلى أن أتوقف عند لوحة باهتة وقد تقشر طلاؤها ؛ إلا ما رسم منها بالأسود ،شكل منجل يلتف حول مطرقة في عناق طويل ، وما أن يقع بصري عليهما أدقق النظر في اللوحة الخشبية أكثر ، حتى أغلق عيني الصغيرتين بقوة وكأن تلك المطرقة تنهال على رأسي فأميل بجسدي نحو اليسار فألويه فوق الغطاء من تحتي لأبدو كمنجل معقوف وقد علاه الصدأ . أشد على شفتي في ألم ، بأسنان صفراء متآكلة ويداي  حول بطني الضامر أبحث بهما عن جسد ضاع مني منذ زمن طويل .
وبعد أن أطمئن الى وضعي الجديد على السرير أتنفس الصعداء ببطء ، ثم أعاود النظر نحو الجدار المرتفع من الناحية المقابلة له ، فيرتفع بصري لتلوح لي أرقام كثيرة ( 1969 - 1961- 1948- 1973- 1967...)  والارقام لاتنتهي ...
فجأة يتوقف بصري على كلمات قد خُطّت على الجدار ، مرة بالطبشور الجيري القديم ومرة أخرى بالفحم الأسود ...( الثورة ، تحيا الحرية ، والجماهير الشعبية ، الوطن ، الخونة، لتسقط......ليسقط .....)
وكلمات هنا وهناك تغطي الجدار وتمتد بينها خطوط ورموز رقمية غير مفهومة ....فأتوه بين كل هذا الزخم الذي تكشف عنه خيوط شمس الصباح ورائحة الرطوبة التي تزكم أنفي فأهرب بعيني نحو السقف المتهالك وخيط المصباح القديم يتدلى منه كأنه حبل مشنقة؛ وقد شُنقت عليه أجساد تتراءى  لي كلما حلّ الظلام وسكن  الغرفة .
يبقى  بصري عالقا بالسقف ، فأسمع الصوت المعهود ، حادا مناديا ( تسعة وستون ، ثمانية وأربعون ، سبعة وستون ...هيا تحركوا نحو الساحة ....هيا ) وصرير المفاتيح تخترق الأبواب؛ أصوات تعودت عليها كمذاق الطعام الذي يرافقها ؛ حساء مجهول الهوية ، لا أحد يستسيغه ولكنه مع الزمن أصبحت الوجبة الوحيدة التي أنتظرها وتملأ بطون تلك الأجساد التي اعتدت رؤيتها تجوب ساحة القلعة جيئة وذهابا .
بعد قليل سأخرج إلى ساحة القلعة ، لأداء دورة تحت أشعة الشمس ، فأجر السلاسل الصدئة بين قدمي ، وقد حفرت كعبي واتخذت لها فيهما موضعا بين العظام إلى أن أصبحت جزءا منها .
فأسير في الممر لأصادف وسط ساحة القلعة هياكل عظمية مثلي يكاد بعضها يلامس الأرض من فرط انحنائها ،ألمح بعض الوجوه وقد ضيّعت ملامحها ولم أعد أتذكر من هم أصحابها ، والبعض الآخر قد اختفى ولم يعد ألتقي به كسابق عهدي بهذه القلعة وسط صحراء مجهولة لا تفضحها الا شمسها الحارقة، وجوه لا أتذكر كيف جمعتنا الأقدار ...
كل ما أتذكره هو ، أنني كنت شابا قويا تتقد عيناي حماسا ، ولكن منذ تلك الليلة حين وجدت نفسي على متن عربة شاحنة ، معصوب العينين ، لا أميز منها غير محركها وهي تقطع طريقا موحشا لاينتهي ، وبين الحين والاخر أحس بأنفاس حولي تارة ، وبأجساد تئن تارة أخرى ؛ فما أن أزاحوا عني العصابة حتى أحسست بان ذاك الشعاع في عيني قد خبا ، فبهت لون وجهي فأحالته رطوبة الزنزانة صفرة تخالطها خضرة ، وكأنني قطعة اسفنج تعفنت في بركة ماء ضحل ....تحت قطرات الماء ....
وكلما رفعت عيني نحو السقف ، جذبتني  دوامة فارغة نحو كلمة محفورة حول خيط المصباح المعلق على شكل حروف مجزأة  [ و - ط - ن ] ....أنظر وأدقق النظر محاولا فك طلاسمها ....فلا أفلح ؛ وأمام كل محاولة فاشلة أحس بطعم مرارة الغُبن والخذلان ....فأخلُد الى النوم ....

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

6 تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع