المقامة الدهرية

قصة قصيرة بعنوان :الخنفساء السوداء 

    لا تزال صورُ قريتي عالِقةً بذهني ، الفراشاتُ المتراقصةُ حول أزهار الحشائش البرِّية التي تحيط بجدران بيتنا فوق التلّة ، أما خنفسائي السوداء فلا تفارق بالي وهي تُكَوِّر كُرَتها نحو جُحْرها ، وكم كانت فرحتي غامرةً حين أرتمي على بطني فوق الأرض أداعبها بسبّابتي الصغيرة  مرّة وأسُدّ عنها الممرّات أحيانا أخرى ، أو أدفع الكرةَ بعيدا عنها فتنقلبُ على ظهرها وأنا أضحك مُنتَشيا بهذا الانتصار ، وكأنني  أسمع صراخَها وهي البَكماء لا حِيلةَ لها ، فأتراجعُ عن فِعلتي لأساعدها على الوقوف ودَحْرَجَة كُرتِها القُرْمْزيّة حتى تُوصِلها إلى مُسْتَقَرِّها ..... كان هذا عالمي الجميل ، لا أهتم بِصياح الدِّيَكة ولا بنُباح الكلاب أو عُواء ذئب شارد يحوم ليلا حول بيتنا ، كان هؤلاء هم أصدقائي الذين يشغلونني عن أمي وهي تخبز ولهيبُ الفرن يَلفَح وجهَها البِلّْوْرِيّ الصغير ، وأحيانا أنسى أنني جائع إلى أن تجُرني أمي من يدي الصغيرة نحو حصير وسط الدار فوقه صينية شاي وزيت وخبز ، لأتناول منه كسرات وأنا أمضَغها أَحُوكُ خُطَطا لِخُنفسائي الوديعة ولِكُرتها القُرمزية ، أما الفراشات الملونة  فكانت كنجوم تلمع أمام عيني وتبدو لي مطلبا بعيد المَنال ، يستحيل الإمساكُ بها ، فأبدو وأنا أقفز خلفها لأمسك بها كخنفسائي السوداء وهي مُلقاة على ظهرها ، لا تقوى المسكينة على شيء سوى أن تُلوِّح بقَوائمها الرقيقة  بكل ما أُوتِيَتْ من قوة ....
 ها هو ذا عالمي الصغير   وكأنه شريطُ صورٍ قديم بالأبيض والأسود ، يسير سريعا أمامي عبر نافذة القطار وأنا بجانب أبي الذي يشدُّ على يدي بقوة ليوصِلني إلى مقرّ عملي في ورشة بالمدينة، بعد أن أقنعني بقوله :
_لقد أصبحت رجلا يا بُني ، ويجب أن تعمل وتكدّ في عملك لتكسب قوت يومك ، فالقرية لم تعد تسعك .
 هذه الكلمات تأخذ مني كل طفولتي وتسلبني تلك النّشوة التي كانت تغْمرني ،كما تجرِفني سرعة القطار بعيدا عن عالمي ، مُحاولا أن أصدق أنني رجل وأنني أكبر بكثير من خنفسائي السوداء .