قصة قصيرة بعنوان : جنّة أخرى
حل فجر ذلك اليوم مبكرا يتثاءب ، وقد خلع عنه سواد الليل المُدْلَهِمّ وألقى بالقمر وهالته وراء التلال البعيدة ، وبأنامله المُطَرّاة بندى الفجر يطرق نافذة بيتنا الطيني القديم ، والبُوم تنعق فوق الشجرة العجوز التي تشد جداره ، وانسحبت الهَوَام إلى جحورها بين الأشواك والأحراش التي تغطي تلك الاراضي القفار بعد أن التهمها القحط و شقّ الجفاف بين طيّاتها خدودا عميقة .
يزيل أبي عن جسده الضخم غطاءه فيهتزّ لحركته السريرُ المهترئ ، توقظ فينا وَجَلا دفينا من صوته الذي ترافقه حَشْرَجة قوية وهو يصيح بأمي رافعا عنها اللحاف:
_ قومي ..قومي يا امرأة ...إنه الصبح ، يوشك الرجل أن يصل ..
تحاول أن تفتح عينيها المُتَوَرِّمتين من أثر النعاس ، وتحاول المسكينة أن تفهم قصده متسائلة :
_ عن اي رجل تتحدث يا رجل ؟
وهو يرتدي آخر كُم من قميصه المهلهل ، ويغلق أزرارَه الضخمة فوق كرشه الكبيرة....صاح في وجهها :
_ إنه سي ابراهيم " مول الكرّوصة " ( اي صاحب العربة )، لقد اتفقتُ معه على الثمن.
رفعت أمي جسمها النحيف بخفة من مكانها وسارت على إثره نحو فناء البيت ، المنفتح كله نحو زرقة السماء ، مستقبلا أول خيوط شمس الصبح الدافئة ، فدبّت حركة خفيفة وسطه ، تجمع أمي أشياءها الكثيرة والأثيرة وأبي ينتقي منها القليل الصالح ويرمي بالباقي جانبا رافضا حمله على العربة بحجة ثقله وعدم جدواه في المدينة، كانت مجرد أسْمال وألحِفة بالية ، وهو يَعِد بأنه سيجد أفضل منها في مزابل المدينة .
بلغت كلمة *المدينة* مسمعي فهزت كياني هزًّا ، كما صاح لها ديك القرية صياحا غريبا بصوت متقطع مبحوح ، أما كلابي فلا أكاد أسمع لها نباحا غير صوت يشبه الأنين ، كأنها تنذر بحلول شر أو شؤم مترصِّد .
ركنت إلى غطائي أتحسس وجود أخي الذي يكبرني بسنة إلى جانبي ، فإذا به مثلي ، جسده يرتجف من هول ما حل أو سيحل ، عين مغمضة وثانية يترقب بها ما يحدث داخل بهو البيت ...لم ننبس ببنت شفة ، تبادلنا نظرات خائفة يملؤها الرعب والترقب ولُذْنا الى لحاف النوم نتوسّم منه حلما بعيدا .
لا يزال العراك والخلاف بينهما مستمرا حول أشياء صالحة وأخرى غير صالحة ، وهذه لي وتلك لك ، وأبي لا يبالي بنغزات أمي ولمزاتها ، يكوّم ما يراه لائقا ويكدّسه في أكياس من الخِيش .
وبين الحين والآخر يلقي بنظره عبر النافذة اليتيمة للغرفة ، ثم يعود الى الفناء يجمع ويكدس الأكياس وسطه .
أما نحن الصغار فلا أحد يأْبَه لنا ، لا زلنا نطل من تحت الغطاء ، ننتظر دورنا حتى نُكوَّم ونُكدَّس مثل بقية الأكياس ، لسنا إلا مجرد أشياء قد تكون صالحة أو طالحة ، وحده أبي من يقرر ذلك ومن يراهن عليه .
سمعنا صوت العربة تتوقف وخطوات أبي تتجه نحوها ، يكدس فوقها الأكياس، ويصيح: _ أسرعي يا امرأة ، "ابراهيم مول الكروصة وصل" ....
وهي تتمتم وتردد :
_ ياربي الطف بنا ، يا ربي سَترك .
ضمتنا إليها ككومتَيْ قَشٍّ ، لتلقي بنا فوق أكوام الخيش ، وراحت لاستكمال ما تبقى جمعه من وسط الدار ، وصاحب العربة يَقْعي كالكلب جنب الباب يلتهم سيجارة بعد أن لفّها في لُفافة غليظة بورق مهترئ ، وشرع ينفث دخانا يخنق الأنفاس أكثر مما هي مخنوقة ، فبدا لي وجهه الحِنطي وقد شقته تجاعيد غائرة ، أما أسنانه فلشدة اصفرارها بدت كقطع معدنية تملأ فمه الكبير ، كرهت هذا الوجه الذي اجتثني من أرضي وأبعدني عن أصدقائي ؛ كلابي وقططي وخنافسي القُرمزية الصغيرة ... وكل عالمي الجميل ... من جنّتي .... لا أدري إلى أين ؟
وأخيرا اعتلت أمي جانبا من العربة وضمتني إلى حضنها وطفقت أتفقد وجهها الذي أنهكته الأيام وأحالته مجرد ملامح رقيقة تخفي حسنا وبهاء قديمين ، لم يتبق منهما إلا تلك النظرة الشاردة التائهة .... ومن وقع اهتزاز العربة ، سارت المناظر أمام عيني كشريط قصير سريع ، كان بطله كلبي الوفي ، وصوت نباحه الذي يشبه الأنين ونحن نغادر القرية ، لم تفارق صورته ذهني إلا حين مالت العربة نحو الطريق المُعبّدة ، فاعتدل الرجل في جلسته ونفخ أوداجه وصدره مختالا باحتلال جزء كبير منها غير مبال بأجراس السيارات ولا بسرعتها، اكتفى بيده اليسرى تشد اللجام بقوة ، بينما يده اليمنى تنهال على جسد الحصان بحزام جلدي يخترق صوته أجسادنا قبل أن يخترق السوط جسد الدابة المسكينة .
هاهي ذي ....... لاحت لنا المدينة من بعيد غولا إسمنتيا أسود ، فأحسست بيد قوية تنتشلني من حضن أمي إلى عالم موحش تملؤه المقابر والحيتان الضخمة النافقة والغربان تعتلي أسطح البنايات ، وروائح تزكم الأنوف ...... حينها قررت العودة والانسحاب من العربة المشؤومة لأرتمي في حضن الأحراش النديّة ، ولألتقي بكلابي وخنافسي القرمزية ، وصراخ أمي يتبعني وهي تركض نحوي ....
💕🤩🤩شكرا 🙏 هذه القصة اعجبتني
ردحذفيسعدني حضورك هجورتي
حذفمعبرة عن روح الطفلة المرهفة في مواجهة ما فاجئ كيانها الرقيق...أبدعتي أستاذتي
ردحذفشكرا سامقة وبارك الله فيك على المتابعة
حذف