القائمة الرئيسية

الصفحات

                     
       

      قصة قصيرة بعنوان : حبّات السُّبْحَة




    تحرّكت ببطء شديد من تحت غطائها ؛ وسحَبته بلطف جانبا ألقَتْ بقدميها الثقيلتين نحو أسفل الأرِيكة ،  تحسَّست بيدِها اليمنى تحت الوسادة ؛ فلاَحَ ضوءٌ خافت من مصباح يدويّ ، حادَت به نحو الجهة المقابلة لها....حركته يمينا وشِمالا وهي تحاول أن تلمح جسدا  ممدّدا  ، يبدو مجرد غِطاء ملفوف ،  تمتمت بكلمات غير مفهومة ؛ فإذا بباب الغرفة ينفتح ببطئ ؛ أطفأت بسرعة ضوء المصباح وهي تسمع صوتا جهوريا :
- أمي ....هل نامت ؟
- صَهْ...نعم ...لم تنم إلا قبل آذان الفجر  بقليل ...قامت واقفة وأردف قائلا :
- إلى أين يا أمي ؟
- لأتوضأ وأصلي .
- تيمّمي فقط .
- لا ...لن أتيمّم ...سأتوضأ .
- أنت لا تقوَيْن على الوضوء في هذا الصقيع .
- تراجع ....إياك أن توقظها ...حْنينتي ..قاست الليلة آلاما قطّعت أوصالها ومزقتني ...
إليك عنّي ...اذهب أنت إلى فراشك الله يرضى عليك ...فأنا بخير ...أنا بخير
حاول أن يأخذ بيدها وتخرج من الغرفة في تلك العَتمة ...وتدخل الحمام بصعوبة وقد أنهك الهرَمُ جسدها ونال الكِبَر والوَهن من قدميها ...فقد جاوزت السبعين عاما ، قضتْها بين حمْلٍ و مُناغاة ووضْع ورَضاع وطبخ وسهر وأفراح وأتراح .....غادرها سَنَدها إلى دار الحق وترك على عاتقها أمانة سبعة أرواح ؛ منحتْها كل شبابها وكهولتها إلى أن شاخت وهرمت .....وحولها الأحفاد ينِطّون ويقفزون وتضحك لفرحهم وتوزع عليهم بَتَلات من الحنان الذي لا ينضُب..... 
لا تزال صورته معلقة على الحائط المتهالك ؛ تراه معها في كل محَل ومحطة ..يساندها ويقف إلى جانبها ...ويشد أركان البيت .....
 لكنه في هذه الليلة ؛ نظرت إلى صورته ؛ بدا حزينا كغير عادته ؛ متألما ؛ كادت ترى يده تمتد نحو ابنته وهي تصارع آلام المرض وآلام جرعات الدواء .....ابنتها البِكْر جاوزت الأربعين سنة ، ذاك الجسد الغضّ الفتيّ تآكل وتهاوى وأضحى مجرد كومة  كومة صغيرة ، تُقلّبها أمّها العجوز بين يديها وتحاول أن تمتص آلامها ؛ حتى ذاك الشعر الأسود الذي كان يتدلّى على جبهتها ؛ اختفى ، واختفى الحاجبان واختفت الرموش ؛ كومة لحم يعذبها الداء والدواء معا ...لا أحد استطاع تحمّل كل هذا الغمام إلا تلك العجوز ؛ فما أن تصلي فجرَها ؛ حتى تبدأ  في الاستعداد ، تذهن ركبتيها بجميع انواع المَرَاهِم ؛ وتربطهما بأحزمة ومناديل ؛ وكأنها تستعد لقتال وحش مجهول .... 
ترافقها في حصص العلاج وتدخل معها في جلسات الاستشفاء والتشخيص ؛ تحاور الأطباء وتحاول فهم ما تنطق به عيونهم ؛ تسأل المرضى في نفس حالة ابنتها ؛ عن أحوالهم وعلاجهم ؛ بل تتذكر اسماءهم ومن عاد منهم للعلاج ومَن لم يعد ومن اختفى منهم إلى الأبد...في تلك الليلة لم تنم ؛ حملت رأس ابنتها بين يديها في حضنها ؛ وكلما أخذ منها الألم مأخذا تلوّت في فراشها إلى أن تنزل بجسدها يتلوّى على الارض ، وهي ممسكة بها في كل حالاتها ؛ وترفض أن ينام أحد معهما ، بل لا تفارق البسمة شفتيها ؛ حتى وإن مرّ أحدهم قرب الغرفة وحدث وفتحها عليهما ؛ تظاهرت بالقوة والابتسامة ...وطمأنته رافضة أن تشرح أو توضح مقدار التعب والألم ، مُدّعية أنها في تحسّن : -اطمئن يابني ...إنها تتحسن ..إنها نائمة ....لا تكترثي يا ابنتي ...حْنينتي تتحمل وستتعافى ..إنها قوية .... هذه هي رسائلها التي توزعها على أولادها ..فيتفرقون إلى حال سبيلهم وأشغالهم ،منشغلين بأولادهم وتلهية أولاد أختهم المريضة ...في اللعب واللهو ...واثقين من صلابة أمهم وقوتها ....لكن ابنها أحمد؛ لا يفارقها ؛ يجاور حجرتها ؛ ويترقب سكناتهما وحركاتهما ....هو من يتدخل في حالات الطوارئ وهو من يهتم بنقلهما من مستشفى إلى مختبر ....لا ينام وإن تظاهر بالنوم ... 
يعود إلى أمه بعد أن توضأت  ؛ فيساعدها على الخروج من الحمام لتعود إلى فراشها ...
 اعتدلت في جلستها مستقبلة القبلة .....رفعت يديها بالدعاء ...دعت بلغتها الأم وبلغة بلدها وبلغة القرآن ؛ دعت بلسانها وبكل جوارحها ثم كبرت وتابعت صلاتها جالسة .....لا يزال ظلام  الشتاء  يسود الغرفة  ؛ الجسد الواهن هناك؛ كعادته مستلق ؛ ينتظر عودة عاصفة الآلام والأوجاع ؛ والأم العجوز له بالمرصاد ...تنتظر عودته ؛ حاملة بين يديها سبحة، غفت قليلا ؛ وما أن انتبهت حتى اهتز جميع جسدها مفزوعة وتناثرت من بين يديها حباتُ السُّبْحَة تضيء الغرفةَ كلها ....
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع