القائمة الرئيسية

الصفحات

قراءة نقدية للدكتور حسني عبد الستار حول قصة : حافية القدمين




قراءة نقدية للدكتور حسني عبد الستار

من مصر حول قصة :* حافية القدمين 

*للأستاذة الزهراء وزّيكٌ




    أول ما نلمحه في النص التصوير الدقيق للأشياء فبالوصف نقلت لنا الكاتبة العالم المتخيل وقربته ، وقد أعاد الوصف ترتيب الأشياء فأخذت شكلا جديدا  في عقل القارئ  مكونة الفضاء الذي أرادته الكاتبة وهو ترتيب يعتمد في المقام الأول على المشاهدة فيمهد الطريق للمتلقي محفزا عقله على التخيل ، ليطلق أفقه محددا العناصر والتيمات المشكلة لسردية النص،  وأول تلك العناصر كان الفضاء المكاني المحدود،  موسعا المكان بدقة الوصف التفصيلي للأشياء ومكونا الحيز السردي، فيسمو القارئ متخيلا عالما سرديا مختلفا لكن  بمجرد أن ترتطم عينه بجورب ريم  الذي تزينه رأسا القطتين حتى يعاود النظر للعنوان مرة أخرى ليدرك أن  هناك أمرا وراء العنوان، فهي طفلة مقعدة وحافية القدمين،  متسائلا ما الذي جعلها حافية القدمين... لكنه لا يجد الإجابة كافية على سؤاله حتى يصل إلى الإشارة الزمنية لعام 1986 فيعرف أنها مخلفات حروب أهلية دارت رحاها بين أبناء الوطن الواحد.
عندما تقرأ العنوان يتبادر إلى ذهنك أغنية الفنان العراقي كاظم الساهر بنفس العنوان والتي من كلمات الشاعر السوري الذي تغنى بالمرأة (نزار قباني) ، في الأغنية يخبرنا كاظم أن حبيبته ترقص حافية القدمين، والحقيقة لا يوجد أي رابط بين النص الذي بين أيدينا والأغنية، ولا أي نوع من أنواع التناص ولكنه التعبير المتداول والأغنية الشائعة التي تُجلب بعنوان نصنا ، لكن المتأمل للنص يجد أن ذلك يصنع  ثنائية فرضتها الكاتبة وهي ثنائية الحياة والموت على إطار نصها حيث جعلت الأغنية هي الآخر بالنسبة لبطلة النص فعمقت صراعا في عقل المتلقي حول راقصة  تتمايل طربا حافية القدمين وبين طفلة لا تقوى على الحركة وتظل حافية القدمين فتدفع حياتها ثمنا لتلك الحروب وهذه العشوائية.
 نظمت الكاتبة نصها مستخدمة الفعل الماضي الذي يناسب الإشارات الزمنية للنص فالحدث تم وانتهى لكنه قابعا في النفوس يترنح كرأسي القطتين اللتين تزينان مقدمة جورب ريم،  وقد حاولت الكاتبة  صورة عالقة في الذاكرة إلى نص ينبض بروح ريم،  فأدمعت عيون القارئ من دقة الوصف.
 القارئ لنص حافية القدمين يدرك للوهلة الأولى اتقان الكاتبة وصف الشخوص والفضاء والأشياء وصفا يليق بالحدث و يفتح الباب أمام القارئ للتخيل وإدراك ما ترمي إليه، فالرسم بالكلمات في النص لا يقل عن الرسم بالفرشاة وإن كان الثاني يعرض صورة صامتة فإن الأول جعلها تنبض بالحياة مرة وتخفق بالموت تارة أخرى، فالكلمات المرسومة على جدران الورق جعلت من النص روحا ومكانا وزمنا بل حدثا ومشهدا متكاملا.
والنص يفتح الباب واسعا على تأويلات جمة يُسقيها بإشاراته  ورموزه الموزعة بين فقرات النص،  بداية  من كلمة المثلث التي  ذكرتها الكاتبة أكثر من مرة وكأنها تشير بتلك الكلمة  إلى مثلث الموت ( الحرب، الفقر، الإهمال)، أيضا الإشارة الزمنية لعام 1986م هو العام الذي خلفت فيه الحروب الأهلية تلك الفتاة الملقاة على سرير متواضع في مستشفى مهمل وقد وثقته  الكاتبة  بوصف حيثيات المكان بدقة متناهية أفجعت قلب القارئ لهذا المنظر الذي ألت إليه الطفلة أكثر مما أحدثته القذائف في نفسه .           
  كتبه د. حسني عبد الستار



نص القصة القصيرة :

* حافية القدمين *

بقلم ذة . الزهراء وزّيكٌ


أطلت برأس مثلث الشكل ،
وعينين واسعتين بلون السماء وقرنين صغيرين يرتعشان كلما أومأت نحو لعبتها الأثيرة .
و رأسا القطتين اللتين تزينان مقدمتي جوربيها الصوفيين الداكنين اللذين تضعهما أمها في قدميها كل صباح ، فإنهما لا يتوانيان عن الترنح ذات اليمين وذات الشمال ، وهي مستلقية على سريرها  ، جنب النافذة الكبيرة لغرفتها، الغرفة رقم ٥  قديمة قدم المشفى ، بقضاء جبيل ... بعض قطع القطن على الأرض ، و أنابيب نقل الدم و أجهزة الاوكسيجين  على طاولة عتيقة ، وأزيز جهاز قياس نبضات القلب يرتفع تارة  وينخفض أخرى ......وطلاء الغرفة بهت بياضه وعلته صفرة وجهها المثلث ، وفي ركن قصي من الغرفة تتمدد أمها وقد غفت، على مصطبة عليها مرتبة يغطيها رداء قطني رمادي ، والى جنبها كرة صوف وردية وسناراتان معقوفتا الرأس ، بينهما رأس قطة صوفي اسود مثلث بقرنين ورديين صغيرين يتدليان نحو أصيص مملوء بتراب أحمر داكن .....تسقيه الأم كل أسبوع  بين الفينة والأخرى ، وبقي بجانبها ، وقنينة ماء فارغة ملقاة بمحاذاته.....لقد جعلها دفء نار المدفئة في الجانب الاخر من الغرفة تغمض عينيها.....في اغفاءة خفيفة فسقطت خيوط الصوف الوردية من بين يديها .......
كانت ليالي الشتاء في منطقة جبيل ضواحي بيروت ،  بطيئة مرهقة ، تغطي الثلوج الجبال المجاورة ، وتعصف رياح المتوسط باردة ،  كماعصفت الحرب بالحياة عصفا .....الشوارع مهجورة والمحلات مغلقة ...ولا يسمع في المشفى الا صفير شجر الأرز الذي يحيط بالمبنى  ....وأنين المرضى ....في الحجرات المجاورة ......
لكن صباح ذلك اليوم من أوائل شهر شباط ، أحست ريم الصغيرة بخيوط الشمس الدافئة تكتسح غرفتها وقد اخترقت زاوية النافذة ، فرسمت مثلثا يضيئ سريرها ، فتحرك رأسا القطتين بمقدمة جوربيها ...ابتسمت لهما ابتسامة عليلة وهي تنادي بصوت واهن :
- أمي ...أمي ....أمي
الشمس في غرفتنا .....
انتبهت أم ريم من غفوتها ، وتفاجأت عيناها  بأشعة الشمس، فأغمضتهما ثانية وهي تتساءل :
- ما بك يا ريم ..!!؟؟ ما بك يا ابنتي ...؟
قامت منتفضة نحوها تتحسس قدمي  الصغيرة ، وجلست على طرف سريرها ، تدلكهما كما تعودت كل يوم .....لكن ريم لا تحس بهما منذ خمس سنوات ، لقد كانت تلعب في صحن الدار  حين وقعت قذيفة قوية بالحديقة ، فأصابتها شظية أوقعتها طريحة الفراش منذ 1986..، كان عمرها ثلاث سنوات
وهاهي الحرب في لبنان قد انتهت منذ سنة  ....وريم وأمها تقبعان  بين جدران هذا المشفى القديم ، تلتمسان العلاج من أجهزة تهالكت وأطباء هجروا البلاد الى وجهة غير معروفة ....
تحسست الأم قدمي الصغيرة وهي تردد :
- لقد أوشكت على صنع جوربين جديدين يا صغيرتي ....تريدين جوارب برأس قطة أسود وقرنين ورديين ؟ أليس كذلك يا حبيبتي ؟
ثم انحنت نحو القدمين الصغيرتين الهامدتين الباردتين كالرخام تقبّلهما ... وتقلّبهما بين يديها ..... امتدت يد الممرضة تجذبها من الخلف وتُرَبّت على كتفها هامسة :
- العمر لك أختي ...
ثم القت بالغطاء الأبيض الناصع على جسد الصغيرة .....
لا يزال جورب يتيم برأس قط مثلث الشكل و بقرنين ورديين ، معلقا على مِقبض نافذة الغرفة رقم  5، بمشفى قضاء جبيل يترنح ذات الشمال وذات اليمين كلما فتح باب الغرفة .
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع