القائمة الرئيسية

الصفحات


مقامة بعنوان :

 المقامة الأرضية 


حدثنا عالمٌ بن عَوْلمةَ اللّولبي قال:

رمَى بي مَرَح الشبابِ ، الى طلب العلم من كلّ بابِ، فما أن بلغتُ كوكب عطارد ، أستقصي الأسبابَ وأُطارِد ، وقضيت به زمنا كالشارد ، مُستعينا بما تلقّفتُه من أفواه العلماء ، وثقفْتُه من وصايا الحكماء، إلى أن بلغ بي الشوق الى الأهل مبلغا ، وصرت أرنو الى موطنيَ الأرض مطلَبا .
فاتّخذت إليها مركبتي مطيّةً،  تغزو الفضاء صباحا وعشيّة ، أخوض بها  الغمارَ ، وأقتحم الأخطارَ ، لأبلغ الأوطارَ ، وأنا متشوِّقٌ أن تلوح لي الأرض كما عهِدتها يانعة ، بحمرة خدّيْها يافعة ،تكسوها الأشجارباسقة ، كقطعة من هذاالأديم ناطقة .
وما أن عرجتُ نحوها متلهِّفا ، حتى أحسست بحرارة لافحة ، وإذا بالأرض قطعة فحم كالحة ، يعلوها الغبار ، وأكوام من الأزبال ، فانقبض مني القلب بِغُمّة ، واستبدّ بيَ الحزن ومحا كلّ هِمّة . حطّت مركبتي على الثرى ، فوجدت الأهل باكين ومن التلوث والحرب شاكين ، احترقت الغابات السامقة ، ونضُبت الأنهار الرقراقة ، وحطّت المسْغَبة في كل بلاد رحالها، ولبِست المَتْربةُ سكانَها ، وقد أنهكتهمُ الحروب ، فساروا تائهين في الدروب ، يرفعون أكف الضراعة ، ويستجدون بدموع الطاعة ، ينتظرون المعجزات في خضوع ، وقد تملّكتهم مذلة الخنوع ، فسألتهم عمّ حلّ بهم ، لعلّي أجد لهم مخرجا من مأزقهم ، فاعتذروا بحجج واهية ، وهم يلمحون من تحتهم الهاوية ، وما أن أدركوا أن الخطر قادم لا محالة ، وأنهم لا يملكون له عُدّة  ولا مالا ،  اتّحدوا إخوانا ، ونسُوا الكره والضغائنا ، واستمسكوا ببعضهم أخدانا ، يحاولون إنقاذ أمهم الأرض ، غير مكترثين بالحدود ولا بخطّيْ الطول والعرض .
فتذكّرتُ قول أمير الشعراء أحمد شوقي :


لما أتَّم نوحٌ السفينة *** وحركتها القدرةُ المعينة

جرى بها مالا جرى ببالِ *** فما تعالى الموجُ كالجبالِ

حتَّى مشى الليثُ مع الحمارِ *** وأخذ القطُّ بأيدي الفارِ

واستمع الفيلُ إلى الخنزيرِ *** مؤتنسًا بصوته النكيرِ

وجلس الهرُّ بجنب الكلبِ *** وقبَّل الخروفُ نابَ الذئبِ

وعطفَ البازُ على الغزالِ *** واجتمع النملُ على الآكالِ

وفلَّتْ الفرخةُ صوفَ الثعلبِ *** وتيَّمَ ابن عرس حبُّ الأرنبِ

فذهبت سوابقُ الأحقادِ *** وظهر الأحبابُ في الأعادي

حتى إذا حطُّوا بسفح الجودي *** وأيقنوا بعودةِ الوجودِ

عادوا إلى ما تقتضيه الشيمة *** ورجعوا للحالة القديمة

فقسْ على ذلك أحوال البشر *** وإن شمل المحذور أو عمَّ الخطر

بينا ترى العالم في جهادِ *** إذ كلهم على الزمان العادي
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

4 تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع