القائمة الرئيسية

الصفحات

قراءة نقدية للأستاذة عبير عزاوي في قصة : حبات السُّبحة

قراءة نقدية بقلم الأستاذة :

عبير عزاوي من سوريا في قصة :

* حبات السُّبحة *  للأستاذة الزهراء وزّيكٌ


الجانب الفكري

   تعتبر السبحة رمزا صوفيا عميق الدلالة ..استخدمته الكاتبة باتقان للولوج الى عالم قصتها حيث الانقطاع عن كل شيء في الحياة. الزهد بكل مايمكن ان يمت لترف الحياة بصلة ؛  فالبطلة الحاضرة الام العجوز  والبطلة المغيبة الابنة المريضة كلتاهما ودعت الحياة وانقطعت صلتها النفسية بها ..لكن في الوقت نفسه كلتاهما تخوض معركة شرسة للتشبث بالحياة وهذه هي المفارقة العميقةالتي حملتها السبحة في انفصال حباتها وتواليها وارتباطها بخيط واحد انفرط في المشهد الاخير بقوة وحزم تشبهان قوة وحزم حضور الموت وهو حضور سريالي ترافق بضوء وصوت دعاء وخيط فاصل بين النور والظلام.
الفكرة هي الصراع من اجل الحياة وهو صراع وجودي ازلي صراع الانسان مع قدره حين تتقطع به سبل الحياة ويقف له الموت بالمرصاد ..
الشخصيات الأم العجوز وابنتها المريضة وكل منهما انعكاس للأخرى كما تمثل امتدادا لها او جذرا ..هي المعاناة الانسانية المتواصلة على امتداد الاجيال
شخصيات ثانوية احمد القوة المحركة الداخلية للحياة ارادة الحياة .. وشخصية الاب الحاضرة الغائبة والتي تمثل القوة الكامنة التي تستمد منها الام العجوز طاقتها لمواصلة نضالها ..شخصيات الاطفال التي اغنت الخلفية المشهدية للنص واعطائه بعدا واقعيا ...
الزمان هو الحاضر بقوة وسطوع في النص فوقت الفجر هو الوقت الفاصل بين الليل والنهار ..تماما كما تقف الشخصيتان الرئيستان عل. الخط الفاصل بين الموت والحياة ..
المكان يتمثل ببقعة صغيرة هي منزل العائلة البسيط حيث لم توضح الكاتبة اي ملامح له سوى ظلال باهتة كانها تود القول ان كل مافي المنزل يقع في مكان مبهم فاصل أيضا بين ذهاب وإياب ...
النهاية الرمزية المفتوحة المتمثلة بانفراط السبحة واضاءة حباتها تمثل انحياز الاحداث الى نهاية يعد طول وقوفها على الحد الفاصل دراميا وزمانيا ومكانيا .
الاشراق الذي تمثل في اضاءة حبات ااسبحة قد يمثل ميلا نحو الشفاء واشراقة الامل واستيقاظ المريضة او ربما يمثل خلاصها من عذابها بالموت الاشراقي على طريقة الصوفيين وهو الجانب الذي اختارته الكاتبة خلفية فكرية لقصتها
بكل الاحوال هي نهاية مدهشة مثيرة ومحفزة للتفكير ومفتوحة على كل الاحتمالات
اتكأت الكاتبة على الموروث الديني بامتياز بما يوفره من مساحة روحية وعمق صوفي يمد الانسان بالطاقة لمواجهة مايسوقه القدر من مآس وهذه الطاقة تمثلت باضاءة حبات السبحة دليل الرضا بأي أمر يمتحن الله به الانسان في سمو روحي وارتقاء صوفي اجادت الكاتبة رموزه ودقائقه باتقان .
وعلى المستوى الفني فقد
لجأت الكاتبة الى طريقة المشهدية البصرية في تصوير احداث القصة واتبعت اسلوب الوصف النفسي العميق حيث تحيط هالة الترقب بكل شيء ويقع كل حدث وزمن في منطقة رمادية اجادت الكاتبة في توصيلها باستخدام السرد المتواصل المقطع بمسرحة تمثلت بحوارات صغيرة خاطفة ومونولوج متقن ..
التركيز والتكثيف حضرا بقوة حتى على صعيد تسمية الشخصيات فلم نعرف سوى اسم احمد الذي مثل القوة المحركة والحارس الامين للشخصيتين الرئيستين ولهذا الاسم ابعاده الدينية والوجودية واظن ان الكاتبة تقصدت اختياره
انقسم الفعل في القصة الى زمنين اساسيين يختزلان المقولات الاساسية ..زمن ماض تخبرنا به الكاتبة عن سير الاحداث الماضية وتؤسس لسرد متسلسل رشيق في الانتقال من حالة الى اخرى وزمن حاضر تمثل في استخدام الفعل المضارع والهيئة الحالية او الوصفية وقد استخدمتها الكانبة لتحقق التفاعل مع نصها وتاسيس  الحالة الراهنة لتدفع بااسرد الى نقطة امتلائه وحافة طفحه التي تمثلت بانفراط السبحة تاسيسا لقادم جديد تركته لخيال القارئ وتفاعله وانعكاس معاناته وتجربته واختلاطها مع ماقدمته الكاتبة من مشهدية نصية .
ختاما نقول ..
لقد ابدعت الكاتبة في تقديمها نصا ينفتح على مساحات واسعة من التأويل ويرفع عتبة السرد الى مستويات تضارع كبار الكُتّاب.

   ************************************************


نص القصة القصيرة

* حبّات السُّبحة *

بقلم ذة . الزهراء وزّيكٌ


    تحرّكت ببطء شديد من تحت غطائها ؛ وسحَبته بلطف جانبا ألقَتْ بقدميها الثقيلتين نحو أسفل الأرِيكة ،  تحسَّست بيدِها اليمنى تحت الوسادة ؛ فلاَحَ ضوءٌ خافت من مصباح يدويّ ، حادَت به نحو الجهة المقابلة لها....حركته يمينا وشِمالا وهي تحاول أن تلمح جسدا  ممدّدا  ، يبدو مجرد غِطاء ملفوف ،  تمتمت بكلمات غير مفهومة ؛ فإذا بباب الغرفة ينفتح ببطئ ؛ أطفأت بسرعة ضوء المصباح وهي تسمع صوتا جهوريا :
- أمي ....هل نامت ؟
- صَهْ...نعم ...لم تنم إلا قبل آذان الفجر  بقليل ...
قامت واقفة وأردف قائلا :
- إلى أين يا أمي ؟
- لأتوضأ وأصلي .
- تيمّمي فقط .
- لا ...لن أتيمّم ...سأتوضأ .
- أنت لا تقوَيْن على الوضوء في هذا الصقيع .
- تراجع ....إياك أن توقظها ...حْنينتي ..قاست الليلة آلاما قطّعت أوصالها ومزقتني ...
إليك عنّي ...اذهب أنت إلى فراشك الله يرضى عليك ...فأنا بخير ...أنا بخير
حاول أن يأخذ بيدها وتخرج من الغرفة في تلك العَتمة ...وتدخل الحمام بصعوبة وقد أنهك الهرَمُ جسدها ونال الكِبَر والوَهن من قدميها ...فقد جاوزت السبعين عاما ، قضتْها بين حمْلٍ و مُناغاة ووضْع ورَضاع وطبخ وسهر وأفراح وأتراح .....غادرها سَنَدها إلى دار الحق وترك على عاتقها أمانة سبعة أرواح ؛ منحتْها كل شبابها وكهولتها إلى أن شاخت وهرمت .....وحولها الأحفاد ينِطّون ويقفزون وتضحك لفرحهم وتوزع عليهم بَتَلات من الحنان الذي لا ينضُب.....
لا تزال صورته معلقة على الحائط المتهالك ؛ تراه معها في كل محَل ومحطة ..يساندها ويقف إلى جانبها ...ويشد أركان البيت .....
لكنه في هذه الليلة ؛ نظرت إلى صورته ؛ بدا حزينا كغير عادته ؛ متألما ؛ كادت ترى يده تمتد نحو ابنته وهي تصارع آلام المرض وآلام جرعات الدواء .....ابنتها البِكْر جاوزت الأربعين سنة ، ذاك الجسد الغضّ الفتيّ تآكل وتهاوى وأضحى مجرد كومة  كومة صغيرة ، تُقلّبها أمّها العجوز بين يديها وتحاول أن تمتص آلامها ؛ حتى ذاك الشعر الأسود الذي كان يتدلّى على جبهتها ؛ اختفى ، واختفى الحاجبان واختفت الرموش ؛ كومة لحم يعذبها الداء والدواء معا ...لا أحد استطاع تحمّل كل هذا الغمام إلا تلك العجوز ؛ فما أن تصلي فجرَها ؛ حتى تبدأ  في الاستعداد ، تذهن ركبتيها بجميع انواع المَرَاهِم ؛ وتربطهما بأحزمة ومناديل ؛ وكأنها تستعد لقتال وحش مجهول ....
ترافقها في حصص العلاج وتدخل معها في جلسات الاستشفاء والتشخيص ؛ تحاور الأطباء وتحاول فهم ما تنطق به عيونهم ؛ تسأل المرضى في نفس حالة ابنتها ؛ عن أحوالهم وعلاجهم ؛
بل تتذكر اسماءهم ومن عاد منهم للعلاج ومَن لم يعد ومن اختفى منهم إلى الأبد...في تلك الليلة لم تنم ؛ حملت رأس ابنتها بين يديها في حضنها ؛ وكلما أخذ منها الألم مأخذا تلوّت في فراشها إلى أن تنزل بجسدها يتلوّى على الارض ، وهي ممسكة بها في كل حالاتها ؛ وترفض أن ينام أحد معهما ، بل لا تفارق البسمة شفتيها ؛ حتى وإن مرّ أحدهم قرب الغرفة وحدث وفتحها عليهما ؛ تظاهرت بالقوة والابتسامة ...وطمأنته رافضة أن تشرح أو توضح مقدار التعب والألم ، مُدّعية أنها في تحسّن : -اطمئن يابني ...إنها تتحسن ..إنها نائمة ....لا تكترثي يا ابنتي ...حْنينتي تتحمل وستتعافى ..إنها قوية ....
هذه هي رسائلها التي توزعها على أولادها ..فيتفرقون إلى حال سبيلهم وأشغالهم ،منشغلين بأولادهم وتلهية أولاد أختهم المريضة ...في اللعب واللهو ...واثقين من صلابة أمهم وقوتها ....لكن ابنها أحمد؛ لا يفارقها ؛ يجاور حجرتها ؛ ويترقب سكناتهما وحركاتهما ....هو من يتدخل في حالات الطوارئ وهو من يهتم بنقلهما من مستشفى إلى مختبر ....لا ينام وإن تظاهر بالنوم ...
يعود إلى أمه بعد أن توضأت  ؛ فيساعدها على الخروج من الحمام لتعود إلى فراشها ...
 اعتدلت في جلستها مستقبلة القبلة .....رفعت يديها بالدعاء ...دعت بلغتها الأم وبلغة بلدها وبلغة القرآن ؛ دعت بلسانها وبكل جوارحها ثم كبرت وتابعت صلاتها جالسة .....لا يزال ظلام  الشتاء  يسود الغرفة  ؛ الجسد الواهن هناك؛ كعادته مستلق ؛ ينتظر عودة عاصفة الآلام والأوجاع ؛ والأم العجوز له بالمرصاد ...تنتظر عودته ؛ حاملة بين يديها سبحة، غفت قليلا ؛ وما أن انتبهت حتى اهتز جميع جسدها مفزوعة وتناثرت من بين يديها حباتُ السُّبْحَة تضيء الغرفةَ كلها ....
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع