كتبت هذه القصة القصيرة
تكريما لأغنية شعبية مغربية لمجموعة غنائية:
* ناس الغيوان*( الصينية)
قصة قصيرة بعنوان :
الصينية
- إن ما أكلوه من الشكلاطة التي جلبتَها إليهم من فرنسا يا بنيّ ،كانت كافية لتُحفزهم على الحركة دون توقف ....
ثم تضحك في وجهي الذي تلتهمُه عيناها الصغيرتان الحانيتان .
يحوم الصغار حولي ضاحكين ، وقد يتوقف أحدهم للحظة يتأملني ويشدّ بأنامله الصغيرة يتأمل ساعتي البرونزية ، شعرت أنني كائن غريب يعود إلى الحارة بعد عشر سنوات من الهجرة ،لكن أشد ما حزّ في نفسي وسط هذه النشوة هي ملامح أبي التي تغيرت تماما ....وغطى الشيب رأسه بالكامل ، فبدا ككثلة ثلج باردة ، لا تُعبّر تقاطيع وجهه عن فرح كما لا تعبر عن حزن .. جامدة تتأمل عيناه الرماديتان سحابة دخان السيجارة ينفثه بين الفينة والأخرى ، وهو يتوسط صحن الدار ، يعتلي أريكة وأمامه صينية الشاي وصحن الكعك الذي تتقن امي صنعه في الأعياد .....
لا أعلم لم كل هذا الجمود وهذا الصمت وسط حديث النسوة الذي لاينتهي ، وصخب الصغار الذين يجوبون الدار ركضا دون توقف ، و يتناهى إلى مسامعي صوت خافت لمجموعة ناس الغيوان على المذياع وسط الدار :
*فين اللّي يْجْمًُْعُو عْلِيكْ أهْلْ النِيَّة؟
آاااااه يا الصّينية . . .
دُوكْ اللّي يَونّْسُوكْ . . .
فِينْ أهْلْ الجُودْ وَالرْضَى . .؟
فَِينْ حْيَاتِي . . . فِينْ حُومْتِي وُاللِّي لِيَّا؟
آْااااه يَا الصِّينِيَّة . . .
أَيَا نْدَامْتِي وَيَانْدَامْتَِي
وْمَالْ كَاسِي تَايْهْ تَايْنِينْ زَادْ قُوَّى عْلِيَّا ْلحْزَانْ ؟
مَالْ كَاسِي بَاكِي وَحْدُو
مَالْ كَاسِي نَادْبْ حَظـُّو
مَالْ كَاسِي يَا وَعْدُو هَذَا نَكْدُو. . . غَابْ سَعْدُو . . . ؟
آْااااه يَا الصِّينِيَّة . . .
أَيَا نْدَامْتِي وْلِيعَة بْرَّادِي فِينْ غَادِي يْتْشْحَّرْ ؟
أَيَا نْدَامْتِي وُحِيرَةْ بْرّادِي جَايْبِينْ جُوجْ مْجَامْرْ
مْجْمْرْ عَامَرْ بِالْفَاخْرْ
وُمْجْمْرْ بِاللّْظَى الْهَاجْرْ َفَاخْرْ صَارْ رْمَادُو
لْقْلْبِي الْمْحْرُوقْ بْ لْبْعَادْ . . . آشْنُو ذَنْبْ الْبْرَّادْ
آااااه يَا الصِّينِيَّة . . .
أَيَا نْدَامْتِي وُمَالْ نَعْنَاعِي عَاجْزْ يِطْلْقْ خْضُورَة
مَالْ كُلّْ حَاجَة مَعْكٌُورَة . . . ؟
مَالْ ذاتِي هَكْذَا مَهْجُورَة . . . مَنْكُورَة مَقْهُورَة ؟
آااااه يا الصينية **
كنت أول المستيقظين صباح ذاك اليوم ، خرجت من غرفتي في الطابق العلوي ، ولكن يبدو أن صوت المذياع وهو يرتفع بأغنية *الصينية* وسط باحة المبنى هو ما أيقظني ، لكن لا أشم رائحة خبز أمي ولا تصلني نسمة الشاي المنعنع وهو يغلي على الجمر ، وسط هذا الملجأ المخصص للمهاجرين غير الشرعيين بإحدى الأحياء الهامشية ضواحي العاصمة الفرنسية باريس ..
لقد رفعتني موسيقى الأغنية إلى حارتنا أشم روائحها الصباحية المعتادة في أيام الشتاء الباردة ، رائحة القهوة المنسمة ، وروائح خبز فرن الحارة .....
يقوم زملائي في المخدع على توزيع قطع الخبز والجبن البارد وكؤوس القهوة السريعة ، وأنا بينهم ، أحاول أن أستسيغها بطعم نكهات البلد ، ملتمسا منها دفئ حضن أمي وحرارة أولاد حارتنا ....و أستجدي من كلمات الاغنية بعض الأنس .
كانت سنوات صعبة ، قضيتها بين ملجأ وآخر وبين مقاهي وملاهي باريس ، قليلا ما كنت أعثر على عمل يومي ، أغسل الصحون وأنظف الأرضيات ، ولكن غالبا ما كنت اختبئ لأن إقامتي غير قانونية ، عشت حالة خوف مستمر ....لم أستطع أن أستقر في عمل أو أجد لي مقرا تابثا ، الشرطة تلاحق المهاجرين غير الشرعيين ، لترسلهم إلى بلدانهم ..يستحيل أن أعود ؛ لقد باع أبي الأرض التي ورثها عن والده في القرية ، كما باعت أمي قطعا من ذهبها وجهاز أختي المقبلة على الزواج ، لأنني أصررت على السفر مثل أبناء مدينتي الصغيرة * القلعة*، فيعود الواحد منهم على متن سيارة فارهة ،يشد بيد حسناء شقراء تفتن الدوار قبل أهل الدار ... فأولاد حارتنا كلهم قد هاجروا بنفس الطريقة ، دفعوا مبالغ مالية طائلة لمن يوفر لهم عقد عمل ومبالغ مالية لمن يقوم بتهريبهم عبر قوارب سريعة تعبر بين طنجة والجزيرة الخضراء ، وهناك يلتقون بمن ينقلهم إلى المكان المقصود ، إلى إسبانيا أو فرنسا أو إيطاليا ... ، لكن ليست كل مرة تسلم الجرّة ، فكثيرا ما تنقلب القوارب ويعود الشباب إلى قُراهم وحاراتِهم في نعوش محملة على الأكتاف ،يتم تشييعهم في صمت دون ذكر الأسباب ، فالأمر يكاد يكون جريمة وخروجا عن القانون . فالكثيرون يقعون ضحية سماسرة الهجرة السرية ، تذهب أموالهم هباء منثورا و يتبدّد عرق جبين ذويهم كأنه هَبّة ريح جافة ، تأتي على الأخضر واليابس ....وهذا ما وقع معي ، لقد قرأت ذلك ليلة البارحة على صفحة وجه أبي .....ضاع كل شيء ....وعدت خاوي الوفاض .
الشرطة الخاصة بالهجرة ، ضبطتني وسط مقهى رخيص في ضاحية باريسية ، سألوني أوراقي ، فادّعيت أنني مريض ، ومن هول الموقف وقعت مُغمى عليّ ، حملوني إلى المستشفى وأحاطوني بعناية فائقة ، وأجروا لي فحوصات على القلب والدم والضغط وعلى جميع أعضائي
جعلتني معاملتهم لي وأنا بين أيديهم أحتقر نفسي ، وأحتقر انسانيتي ....
ولكن بعد أسبوع ، أتوني بأجود اللباس الدافىء أرتديه وحقيبة بها ملابس وقطع شكولاطة وساعة يدوية برونزية وهاتف .....كما سلّموني تذكرة سفر على متن أول طائرة إلى بلادي ....ومع التذكرة ظرف كبير لمجموعة من التحاليل.... تؤكد أنني حامل لفيروس قاتل ، فيروس فقد المناعة المكتسبة ( السيدا ) ، وأنه في مراحله الأخيرة ، ويُستحسن أن أودع أهلي خلال الأسابيع المتبقية من عمري .....
كان الخبر صدمة أشد وقعا من صدمة العودة ...فما استطعت لحظتها تذكّر التفكير في أي شيء ...ولكن كلمات أغنية الصينية يرددها لساني وهو قابع في أقاصي حنجرتي .....
ها أنذا بين أهلي .....عدت لأودعهم ، وهم يتوهّمون أنني قد عدت إليهم لأنقذهم حاملا اليهم حياة بطعم الشكولاطة ...
ولكنني لم أحمل إليهم غير قطع شكلاطة سوداء وزعتْها أمي على الصغار يلوكونها بين أسنانهم الصغيرة تغمرهم سعادة حلاوتها ، لكن سرعان ما يتبدّد طعمها الحلو....ليستحيل مرارة تنهش الحلق .
وهاهي نظرة أبي لا تفارقني وجموده يقتلني قبل أن يمر يوم واحد على وصولي ....
تعليقات
إرسال تعليق