القائمة الرئيسية

الصفحات


المقامة المنبرية 


حدثنا أبو أحمد ابن عربي العدناني   :

فارقت أهلي وانا فتِيّ السنّ ، لم يبد لي شارب أو يعِنِّ ، ولا أدركت علوم ابن جِنّي ، قاصدا طلب العلم بين بلاد العجم وفرغانة ، فإذا بي أشد الرحال بين ناد وحانة ، ويركض طرفي نحو كل غواية ، ولا يصيبني منها نصَبْ ، ولا يثنيني عنها وصَبْ ، بل يتلقفني كل من هب ودَبّْ .
فانبهرتُ بمفاتن العمارة والعمران ، و سقطت صريع الغواني والليالي الحسان ،
فجعلت السهر غايتي ، ومسامرة الصحاب منْيَتي ، ناسيا أهلي وعشيرتي ، ولا أتذكر من عروبتي ، الا نشيدا من طفولتي:

بلادُ العُربِ أوطاني ..... مِنَ الشَّامِ لِبغدانِ

ومن نَجدٍ إلى يمنِ ..... الى مِصرِ فتطوانِ

فلا حدٌّ يُباعِدُنا ..... ولا دينٌ يُفرقنا

لسانُ الضاد يَجمعُنا ..... بغسانِ وعدنانِ

وما أن طرحنى الشوق طرحا ، وشدّني الحنين إلى الأهل شنقا ،
حتى أُبْتُ إلى صوابي قافلا ، ألتمس العلم من الجوامع سائلا ، وأقتفي أثر العلماء متوسلا ،  ومن كل الفنون مستعطفا . فتخصصت في علوم السياسة ،
طامعا أن أكون وزيرا او رئيسا ،
وأخوض غمار الرياسة ، وأسوس بلادي وبميزان الحق أقيس وأجوس .
وما أن غادرت قاعة المطار ، و قررت الصيام عن الترحال ، حتى ألفيت أهلي في أسوأ حال .
لا فرق بينهم وبين والوحيش في الأدغال، نصّبوا الأسد عليهم ملكا ، وحوله الذئاب تؤدي الولاء نُسُكا ، و قد تعطروا عنبرا ومسكا ، وعلى أعتاب بلاطه  الكلاب تقعي ، تهلل للفرعون وتعوي   ، تنظم سوق عكاظ للانتخابات، و ترشح للحكم هامات ، وتنصّب على الشعب قامات، تدعي المعرفة بالحق السياسي ، وبالقانون والدستور وعلم الكراسي . وما أن تعتلي المنابر ، وتخطب في الناس وبأعراضهم تقامر ، وعلى شرفهم وذمتهم تراهن ، وتجند لحملتها الأبواق ، وقنوات الصرف والنفاق ، تعد وتتوعد وتعاود ، وتزين الوعود وتراود ، و تبيع العسل مرا ، وتكيد لأهل عشيرتي شرا ، من الشام الى الأندلس ، وفي عالمي العربي المنسي ، لا يزال أهلي يؤمنون بإلاه اسمه الكرسي .
فعدت أدراجي الى سابق عهدي ، أحاول تذكر طفولتي ومترع مهدي ، حين كنت أنشد :
*بلادي بلاد العرب اوطاني *
فأحسست باعوجاج في  لساني وانكسار في حالي ،وأنشدت نازحا وقد شددت رحالي :

بلاد العرب اوطاني
وبعض العرب اخواني
وبعض يُقَتِّل شعبي
وبعض صار سجّاني
وبعض يسهر ليلا
على أنغام اشجاني
بل الحكام تشنقنا
وتُركّعنا للأوثاني
فمن شام الى يمن
الى بغداد أكفاني

وما بِتّ وأصبحتُ حتى استوقفتني شرطة الحدود ؛ واتهمتني بالخروج عن المعهود ، وأنني أقول شعرا في الكرسي ، و أن ملفي سيحال على حضرة المفتي .
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع