القائمة الرئيسية

الصفحات


قصة قصيرة بعنوان :حافة الذكريات 


    ألقى بجسده النحيف إلى الأرض، وقد كسته أسمال رثة حتى كاد يتلاشى تحتها،   اتكأ إلى جدران المتجر خلفه ، كادت ملامح وجهه تختفي خلف شعيرات لحية كثة  ، وشعره الأشعث قد كساه البياض يخالط سواده فاستحال كثلة من رماد . وضع صندوقه أمامه وطفق يطرقه بممسحة الأحذية ،  طرقات خفيفة إيذانا بحلول ماسح الأحذية بالمكان ، وعيناه تتابعان خطوات الأقدام أمامه ، تتربص فريسته:* حذاء أسود يعلوه الغبار* .
فجأة وقعت عيناه الغائرتان  في عينيها البريئتين النابضتين بالحياة ، توقف فجأة عن الطرق، فلمعت عيناه كما لم تلمعا من قبل ، انفرجت أسارير وجهه ونثرت تلك الشعيرات بعيدا لتكشف عن ابتسامة مجهدة وكأنها كانت عالقة بحافة بئر عميقة ، تحرك قليلا وهو يعتدل في جلسته ، ومد يده نحو جيب ذاك المعطف الضخم الذي يكسو جميع جسمه ، ليخرجها أخيرا ممدّدة  نحو الصغيرة  بعلبة بسكويت مغلفة ومحكمة الإغلاق  ، أومأ إليها برأسه مشيرا أن تأخذها ...وألح في ذلك إلى أن تحركت بخطواتها الصغيرة نحوه ومدت يدها الصغيرة نحوه فأمسكتها من طرفها .
احتلت الابتسامة كامل وجهه ، فتدفقت نضارة تغزو  أساريره، فتبدّت أسنانه التي كستها صفرة داكنة ، وهو يتأمل حركتها الخفيفة  استولى على كامل كيانه رائحة عطر طفولي ، لتحلق به على بساط الذكريات وتنتفض في ذهنه صورة  ابنته الصغيرة ، في نفس حجمها وحركتها ونظرتها وبنفس العبق الطفولي الذي لا يكاد يبرح جوارحه ، تذكر قفزاتها حوله ، ولا تزال رنات ضحكاتها في مسمعيه ، ضم أصابع يديه على بعض وكأن يدها لا تزال في يده .اتّقدت الذكريات في مخيلته إلى أن داهمت مخيلته ذكرى إغفاءة أوقعته وهو يقود سيارته من أعلى الجسر نحو قاع النهر ، فقد إثرها صغيرته وزوجته إلى الأبد فارتمى في أحضان الوحدة والكحول والضياع .....فقد وظيفته وأهله ونفسه ، ودّع وعيه الذي يغادره  لأيام ويحضره ليوم او ثلاث ، يسترزق من صندوق مسح الأحذية إلى أن يستسلم للضياع مرة اخرى .
غرق في ذكرياته السحيقة ، وهي واقفة أمامه تتأمله في وداعة ، وقد علت وجهه نظرة شاردة مريبة ،  إلى أن كسر خيطَ هذا التواصل صوتُ أمها  صارخة :  *هدى !! *،  فكانت صرختها في وجه الصغيرة كسكين حاد غرزت في قلب الرجل .
تسمرت الطفلة في مكانها، توارت بسمتها خلف شفتيها الرقيقتين ، وحل الهلع محلها ، وهي تنظر إلى أمها المتحفّزة نحوها مؤنبة مزمجرة ، وانتزعت علبة البسكويت من يدها لتلقي بها في وجه الرجل وقد جذبت ابنتها إليها تجرها بعيدا ، وقدماها الصغيرتان تتعثران وسط حذائها الوردي الصغير ...مخلفا وقعا ينهش صدره.
عاد إلى عالمه وتكوّر داخل معطفه الكبير ، وتاهت نظراته في الفراغ وألقى بجسده على الأرض يغالب دمعة حارقة  و يدفع صندوق مسح الأحذية بقدمه بعيدا  مودعا وعيه الى حين .
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع