قصة قصيرة بعنوان
شجرة التين
نظر أمامه ، حاول أن يستكشف المكان بعينيه الغائرتين في وجهه ، وبصعوبة شديدة لمح تلك البوابة الضخمة ، بدت له رمادية اللون وليست خضراء كما عهدها ، أزاح بصره عنها فأشعة شمس الظهيرة في فصل الصيف تحجب عنه الرؤية الواضحة . سار بخطى بطيئة يجر قدميه وعكازه جرّا ، إلى أن اصطدم بصره بذاك الباب الحديدي ،
فوضع يده عليه أحس بحرارة تسري في جسده ، تراجع إلى الخلف قليلاً ، ورفع بصره عالياً ، إنها هي لا تزال هنا تُظلّل المكان كعهده بها ، شجرة الزيتون الكبيرة ترمي بظلها الوارف حول مدخل مدرسة *المؤمنين الابتدائية للبنات* .
مال نحو الجدار الجانبي للبوابة ، واتكأ عليه ، يستمد بعض القوة من ظل شجرة الزيتون ، ومن رائحتها التي تغشى أنفه الصغير فتسري في جسده الواهن ، طفق يطرق البوابة بعكازه ....إلى أن سمع صرير الباب الحديدي ، فاعتدل في وقفته واستقام كتلميذ نجيب مقبل على أول درس ...وإذا بصوت ضخم يصيح في وجهه :
- من ؟ الحاج مسعود !!!!؟؟؟؟ ماذا تفعل هنا ؟ !!!
تقدم الرجل نحوه مستفهماً وهو يسلم عليه معانقاً ومستغرباً ، فإذا بالشيخ يبعده عن جسده ويدفعه دفعا، ثم يدلفان سوياً نحو ساحة المدرسة ، فارغة هي بعد أن غادرها الصغار إلى عطلة صيف طويلة ...
انطلق الحاج مسعود ، يتنقل من شجرة إلى أخرى ومن كرسي استراحة إلى آخر ، بجسد خفيف الحركة حتى لا تكاد عكازه تلامس الأرض ، والبواب المسكين يلحق به مرددا :
- إلى أين يا حاج ؟..إلى أين ياعمي مسعود ؟....تمهل ....
لم يتوقف الحاج إلا ليسأله بصوت متهدج وقد خنقت الأنفاس المتلاحقة صدره النحيل :
-قل لي .....؟ يا هذا ؟ ..أين حجرة درس معلم اللغة العربية ؟
أجابه الرجل بحذر شديد :
-من هنا يا عمي الحاج ...تعال .
أخذ الرجل بيده حتى لا يسقط منه أرضاً ، وانحرفا نحو بناية كبيرة من طابقين ، وعلى الجانب الخلفي للبناية تتكىء شجرة تين ضخمة تبدو للناظر من بعيد وكأنها عجوز أرهقتها السنون فلاذت إلى هذا الجدار تشكوه همها؛ وما أن وصل الحاج باب الحجرة الثانية حتى دفعه لاهثاً ، وتوجه نحو النافذة الغربية ، فتحها بحركة خفيفة وكأنه هو مَن أغلقها البارحة ، مدّ صدره ووجهه نحو الخارج ، فبدت له حفيدته * هبة * تلهو وتتعلق بأغصانها المتدلية ، لكن سرعان ما اختفى طيفها، وانكسر بصره وأحس بأن قدميه تهويان نحو الأسفل ، فأغصان الشجرة تدفعه نحو الفصل الدراسي دفعا وهي تكاد تلامس وجهه فيداعبها بيديه ويشمها بملء رئتيه وقد ألقى بجسده على أول مقعد . فاحت رائحة التين وعمت أرجاء حجرة درس اللغة العربية ، وقف الحاج مسعود يداعب وريقاتها بكلتا يديه وهو يردد :
-كم اشتقت إلى هذه الرائحة ، إنها رائحة الجنة ، أليس كذلك ياعمي عبد الله ؟!
أخفى البواب ضحكته وراء ابتسامة ساخرة وأجابه :
ياعمي الحاج ، إن عبد الله البواب قد توفي رحمه الله منذ خمس عشرة سنة وأنا ابنه محمد ، حللتُ مكانه أشتغل هنا بواباً ...
وقعت كلمات الرجل على مسامع الحاج مسعود كالصمم ، فقطّب عن حاجبيه ونظر إليه باستغراب ممزوج بغضب ثم أردف قائلا غير مبال به :
- نعم يا عمي عبد الله ، أعرف جيداً هذه المدرسة ، إنها مدرستي الأولى ، قضيت هنا طفولتي ؛ وأنت تعرف ذلك جيدا،
ألا تتذكر معلم اللغة العربية؟ ومعلم الحساب والقرآن ؟ووووو معلم ومعلم ؟؟؟....واسترسل دون توقف .
ومحمد البواب يستمع إليه بصبر ويقاوم التعب ويخفي ضحكاته الساخرة حينا والمُشفِقة أحيانا أخرى ، إلى أن بلغ منه التعب مبلغه فقاطعه متسائلا :
- وما أخبار حفيدتك هبة ياعمي الحاج مسعود ؟ ذات الضفائر الذهبية ؟ اه ...كم كانت طفلة ودودة .....وديعة تملأ ساحة المدرسة حيوية .....وكنتَ دوماً ترافقها ...وتنتظرها تحت شجرة الزيتون عند البوابة إلى أن تغادر ....آه يا عمي الحاج ...لا زلت أتذكر .
وما إن التفت اليه محمد البواب حتى وجده قد تسمّر في مكانه ، جنب النافذة ،وأحس وكأن خنجرا غرزت في صدره، فاتكأ على حاشية النافذة ولا تزال أصابعه تداعب وريقات شجرة التين .
تغيرت ملامحه ، وعلا وجهه حزن دفين ، خبا معه ذاك الشعاع في عينيه ، طأطأ رأسه إلى الأرض يخفي دمعة حارة تتدحرج من عينه اليسرى ، فتمنعها صورة جسد حفيدته بين عجلات سيارة بعد أن انفلتت من بين يديه، مسرعة لتعبرالطريق .
يهرب ببصره بعيداً نحو السماء، ليعود الى عكازه يتوكّأ عليها ، بل مد يده الثانية إلى محمد يستند عليه ، وأومأ له أن يغادر ، تلقّفه الرجل قبل أن يتهاوى من بين يديه،وفي عينيه نظرة استغراب يخالطها الندم على سؤاله الغبي .
سار الحاج مسعود بنفس الخطى الوئيدة يجر قدميه بمشقة وكأن حملاً ثقيلاً نزل على كاهله ، ينوء به مثقلاً ...إلى أن بلغ البوابة الرمادية الضخمة ، التفت وراءه وقال :
هبة حفيدتي ، لا تزال هنا ، هذه جنتها ؛ و عطر ضفائرها يفوح من أوراق شجرة التين ....
👌
ردحذفشكرا
حذف😘
حذفقصة جميلة
ردحذف🌹
حذف