قصة قصيرة بعنوان :
ميزان المشاعر
كان غطائي ملاذي الوحيد ، وسط هذه الندف التي تنقر رأسي قبل أن تسقط على بِلّور نافذة هذه الغرفة الجانبية في فندق منعزل وسط هذه الجزيرة النائية من المحيط .
بين الحين والاخر ، تصلني زمجرة الرياح فتصمّ آذاني و ابواب بعيدة تصطك و صفير أشجار الأكاليبتوس التي تحيط بالمبنى ، كل هذا العويل يجعلني اتكوّر في مكاني ولا أبرحه .
أنتظر وبشغف بزوغ أول خيط من خيوط الصباح ، لعله يحمل معه بعض دفء الشمس .
فجأة ، يخترق صوت حاد هذا العويل صارخا :
*محكمة*
وقف الجالسون بغثة واتسعت الأعين ، وتوقفت تلك الجلبة والضجيج الذي يملأ الأرجاء .
*طق طق طق*
ثلاث دقات من مطرقة *الفراق* وبعدها ، هدووووء تام .
نادى القاضي على أول الأسماء :
- *الغربة*.
تحركت الغربة من كرسيها الخشبي الهزاز ، متثاقلة تثاءب ،
وتنفض عن معطفها الأسود الثقيل ندف الثلج العالقة به وبعض شعيرات الوحشة القاتلة ، وبصوت مبحوح تنطق بمشقة كبيرة :
- حاضرة.
يعود القاضي الى أوراقه يتصفحها ثانية ، وحفيفها يكسر هدوء القاعة الى ان يصرخ:
-*الوحدة*
وهناك في أقصى القاعة ، يسمع سعالها الحاد ، وبين اصطكاك أسنانها تنفلت كلمة :
- حاضرة .
طلب منهما القاضي التقدم نحو قفص الاتهام .
فتقدمتا نحوه ، غير مباليتين بقصده او بأصبع اتهامه ، ولم تبديا تأففا ولا استنكارا .
استمعتا الى مختلف التهم الموجهة اليهما ، أنصتتا اليه بآذان متدلية ، وكأنهما حفظتا النص عن ظهر قلب ، الى أن انهى كلامه ، فأردف قائلا :
- المحكمة تُخوّل اليكما اختيار محام من هيئتها ليدافع عنكما ويدفع عنكما التهم المنسوبة ، بعد ما ألحقتماه بضحيتنا من سكاكين *الشوق* ....وهذه تهمة الشروع في القتل العمد عن سبق إصرار وترصد .
رفعت الغربة حاجبا وقوست آخر ، وهي ترد على هذا السخاء الحاتمي من هيئة المحكمة :
- سيدي القاضي ، إن كل ما نسب الينا لا أساس له من الصحة ، فمحكمتكم الموقرة لم تضع اليد بعد على المتهم الحقيقي .
وهنا تحركت الوحدة ، دفعت بكتفها كتف صاحبتها لتكمل حديثها :
- نعم سيدي القاضي ، لا يد لنا في ما حل بضحيتكم من شجن ووصب ، ولا بما ألمّ بها من عشق و هيام ، ولكنه *الفراق* سيدي ،
نعم انه الفراق ، المتهم الاول والأخير .
فلِمَ لم تسألوه ؟ أم انكم تخشون وقعه وجبروته ..... يا حضرة القاضي ، تعرفون جيدا أنني أعيش وحيدة ولا شأن لي بأحد ، لا أثير عواطف رملية ولا أتربة حسّاسة فما بالك بإثارة مظاهرة في الشوق والحنين .
أضافت الغربة تؤيد صديقتها ، فبدتا كشخص واحد في ثوب أسود بللته أمطار الشتاء ، وعصفت به رياح الخريف ، حتى بدتا كشبح مخيف :
- نعم سيدي القاضي ، فما نحن الا شمّاعات ، تعلقون عليها تهمكم الزائفة ولا حاجة لنا الى محام او قاض ...فنحن في حالنا ، لا نؤذي احدا ولا يسمع احد منا سوءا ، وأنا شخصيا سيدي ألازم كرسيّ الخشبي و لا أبرحه ...فكيف تتهمونني بإثارة الشوق والحنين في أوساط الشعب ؟ !!
تردد القاضي قبل أن يجيب ، وانحنى نحو زميله الى يمينه يهمس اليه ثم نحو الثاني على يساره ، يؤكد له برأسه كلاما غير مسموع ، لينطق أخيرا :
- الحكم بعد المداولة .
غادر القضاة القاعة ، وحلت محلهم الجلبة والضوضاء وتبادل التهم بين الفراق والغربة والوحدة ...من جهة والفراق والبعد ...والوجْد والوصب والوله ....والصبابة ....من جهة ثانية ،والضحية تجلس في جانب من المحكمة وراء سياج خشبي ، تحيط بها هيئة رفيعة من المحامين وقد علا الشحوب وجهها ، وجسدها يرتعش من قرّ الفراق وأنفاسها تتقطع لاهثة .....وقد بلغ منها الشوق مبلغا ...وكأن مدفأة المحكمة خامدة .
فجأة عاد الهدوء الى القاعة بعودة القضاة ، و إعلان * استئناف الجلسة *......
اعتدل القاضي في جلسته ، مال قليلا نحو زميله ، فمالت معه كفة الميزان المعلق أعلى الجدار خلفه ، حاولت أن أتبين أمر هذا المَيَلان أهو من الجدار أم أن الميزان نفسه مائل ، ولكن الصدأ الذي يعلو جزءا كبيرا منه......جعلني لا أستبْيِنُ استواءه من عدمه.
وأخيرا نطق القاضي بالحكم :
( بعد اطلاع هيئة المحكمة على أوراق القضية ، وملابساتها ، نعلن براءة المتهمتيْن * الغربة والوحدة* ، وبهذا تُقيّد القضية ضد مجهول ، في انتظار استكمال الأدلة ).
وما أن انتهى القاضي من النطق بالحكم حتى سقطت الضحية والتف حولها الفراق والغربة والبعد والوحشة ، يحاولون إسعافها ، لكنها لفظت أنفاسها الأخيرة بين أحضان الشوق ....وجدران المحكمة ...
وعاد صفير الأشجار يملأ أرجاء الفندق ، ويكسر جدار قلبي ، ويغادر النوم أجفاني.
قصة معبرة
ردحذفبالفعل ❤️
حذف