القائمة الرئيسية

الصفحات

 
قصة قصيرة بعنوان
ضفيرة جدتي

يبدو ثغر جدتي مبتسما ، وعيناها تترقباني وأنا أنظف المكان، وأمسح خزانة قديمة وما أن فتحت أدراجها حتى اصطدمت يدي بعلبة خشبية ،  فتحتها فإذا   بأسنان جدتي تبتسم في وجهي ، وضعت مسرعة العلبة جانبا..
ورفعت رأسي إلى السقف ،  حاولت مرات أن أزيح بصري عنها وأبعده تماما ، و هذه الرأس اللعينة تأبى إلا أن تهتز وترتفع نحو الجدار .
لكن هذه المرة لمحت بسمتها تتسع حتى بدا الوشم المتكدس فوق ذقنها حرفا يشبه الكاف ، تمدد خطا مستقيما يقطعه خطان صغيران متوازيان باللون الأخضر القاني ، فهمت فيما بعد أنه حرف له رمزيته في قريتها .
مددت يدي نحو الصورة المعلقة على الجدار منذ عقود ، اقتلعتها بلطف من مكانها ، ثم ضممتها إلى صدري ، حينها تملكني شعور قوي بالحنين ، أتبعته زفرة قوية ، ثم استرجعت قوتي بتنهيدة وأنا أحاول أن أجلس على الأريكة جنب الحائط المتآكل .
مسحت زجاج الصورة بطرف من كمّ قميصي الطويل ،تبدو  الصورة جديدة وألوانها زاهية وإطارها لم تنقل إليه رطوبة الجدار عدواها السامة ، وضفيرة جدتي حمراء قانية رُبِط طرفها  بشريطة ملوّنة بألوان علم وطني، فبدت الضفيرة على جانب من صدرها والوشم على ذقنها بندقيتان عتيقتان.
 رفعت الصورة  نحو وجهي وألصقت أرنبة أنفي بزجاجها أتشمّم عطرها الذي لا يزال عالقا بخياشمي ....بالغت في التشمّم و عيناي المغمضتان تغالبان دمعة  عصيّة .
في تلك اللحظة أحسست بيد تمسح وجنتي وتدفعني عنها بكياسة ، وصوتها المبحوح يتردّد صداه في أذني :
* ايييييه يا ابنتي، عيناك تشبهان عينيْ والدك ، تتّقدان نارا*
فتحت عيني وقد تملكني الصوت القادم من بعيد ، فاستولى على كل أطرافي ، فلم أقو على القيام من مكاني ، ولكن يديّ تشدان الصورة بقوة إلى صدري وكأنني أحاول أن أُسكِت صوتها  وأسكِت اللهاث المتقطع
داخلي ...
تذكرت حكاياتها عن أبي ، وشجاعته ، وكيف تصدى وشباب القرية للاحتلال فحملوا السلاح ،وخططوا لعمليات فدائية .
حينها تذكرت صمود جدتي ليلة تسلمت رسالةً تخبرها باستشهاد أبي ، ابنها الوحيد......أخبرتني أنها كانت نفس ليلة مولدي ، وكيف تولّت تربيتي وكأنها تربي جنديا داخل ثكنة عسكرية ،
لم تعر لأنوثتي اهتماما ، بقدر ما كانت تزرع في نفسي حب الحرية وعزة النفس ...
مددت صورة جدتي فوق ركبتي ، نظرت إليها طويلا ، هزت لي رأسها وابتسمت مرة أخرى ، ولكن بفم خال من الأسنان .
رفعت رأسي نحو الجدار أمامي، فتسمّر بصري على مكان الصورة، فصعقت حين لمحت صورة أبي ،الذي لم يسبق لي أن رأيته ، شابا صغيرا بلباس عسكري ، أُلْصِقت بالجدار وبعناية فائقة ثم مُرِّرت عليها شريطة صغيرة بالاحمر والاخضر  وقد لُفّت بها بعض شعيرات من ضفيرة جدتي القانية ...أعدت صورة جدتي الى مكانها ، لتختفي صورة أبي خلفها .....
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع