القائمة الرئيسية

الصفحات

قصة قصيرة بعنوان:

الجسر

سارت بي  الحافلة تقطع الشريط الساحلي ، إنها نفس  الطريق التي عبرتها منذ اثنتي عشرة سنة  نحو المدينة .كانت رائحة البحر تخترق أنفي وبدا لي موج البحر غاضبا يلقي بزبده على الصخور وعلى صدري المنقبض ، فشعرت  وكأنني أُساقُ بقيود وأغلال تشدني من رقبتي  لأعود  إلى مسقط رأسي ، إلى موطن بؤسي ، توقفت الحافلة عند طريق منعطف يؤدي إلى إحدى القرى المجاورة ،تملكتني الرغبة في مغادرة مقعدي ، فتوجهت نحو بابها ونزلت دون شعور مع النازلين... أحسست بدوار وقدماي تطآن الأرض .....لاح لي  الجسر من بعيد ، نفس الجسر الذي  عبرته صغيرا مئات المرات .... تمر الذكريات أمام عيني كشريط بالأبيض والأسود ، بهتت ألوانه ..نظرت مليا إلى جانب الجسر نحو الأسفل  ، أحسست بأن الزمان قد عاد بي إلى  الماضي والذكريات تمر أمامي فتبدو لي كأنها اللحظة ...
تمر الأقدام أمام عيني ، وتتلقف عيناي الأجود منها. ، و الأجود هي تلك القدم ذات الحذاء الأسود الذي يعلوه غبار طفيف  ، ويحتاج إلى تلميع ، فأشد على ممسحة الأحذية أدق الصندوق الخشبي لعل قدما من هاته الأقدام تتوقف لتتوجه نحو الممسحة ، تستجديها ولكن دون جدوى .
كنت غالبا ما أقضي اليوم كله متكئا على جدار المؤسسة البنكية التي تستولي على جانب مهم من الساحة التي كانت قديما تسمى "ساحة  التحرير فاخترقها عمارات ومؤسسات ضخمة ...
كنت أتوجه صباحا باكرا قبل ان تستيقظ أمي ، أقطع مسافة طويلة راكضا ، أعبر الجسر الذي يفصل المدينة عن أحيائنا المنسية خارجها ،خوفا من أن يعترض طريقي أحد المتشردين الذين يأوون تحت الجسر  .
كم كنت أستعجل مرور أحد الموظفين الوجهاء  حتى أتمكن من مسح حذائه قبل أن يلتحق بعمله ، فيجود علي ببعض الدريهمات  ،  أقتني بها رغيفا لأمي المريضة وعلبة حليب ، لقد تركتها طريحة الفراش منذ يومين ، لا أعلم ما بها ، ولكن ذاك السعال الحاد ، يخترق صدري فيمزقه إربا إربا ...
أقضي الليل أتقلب في فراشي ، بين تهيؤات مقيتة تخيفني من الجسر العالق بين المدينة وحينا ...فتوقعني في دوامة الرعب والخوف من المجهول ، أنا وحيد أمي ، أمي التي أفنت عمرها من أجل أن تراني في سن السادسة عشرة ، وها أنذا لم أبلغها بعد ، وأنتظر أبي الذي غادرنا من قبل ولادتي ، إلى أحضان امرأة أخرى ومدينة أخرى ،كما تقول أمي ... ولكن من نبرة صوتها فيبدو أنه يستحيل أن يعود......
غادرت الصفوف الدراسية الأولى لأعيلها ، ولو ببعض الطعام ،لأنها لم تعد تقوى على تحمل مصاريف تعليمي ..... فكان هذا  الصندوق الخشبي  لمسح الأحذية هو المنقذ الوحيد الذي وجدته أمامي ، لا أدري من تركه بهذا الكوخ الذي نقطنه ،حتى أمي تقول دوما أنها لا تعلم عنه شيئا أو أنها لم تشأ إخباري سره الدفين.....
عدت من المدينة يوما ببعض الخبز وعلبة حليب ، و عبرت الجسر راكضا يتملكني الرعب منه  ،  كان سعالها يخترق ألواح الكوخ التي كانت تشد جوانبه حتى لا ينهار بفعل رياح المحيط التي تشتد في الخريف ..وجدتها مكومة في غطاء خفيف وقد ارتمت على حصير قديم ،ألقيت بما أحمله جانبا ، واستلقيت إلى جانبها أبحث عنها وسط هذا السعال ،محاولا أن أمسك بيديها وبصعوبة تحدثت حديثا متقطعا وصدرها ينتفض بقوة:
_ لا تخف يا بني ، أنا معك ، إنها نزلة برد خفيفة  أصابت صدري سوف أتعافى وأعود كما كنت ....لا تجزع ..فكم مر علينا من أيام قاسية ، كنت لي فيها أنت النور الذي أتمسك به في هذه الحياة ....لقد عشت وحيدة ، منذ أن غادرت قرية أهلي صغيرة في الثامنة من عمري، رافضة ان يزوجني أبي من رجل عجوز  ، فوجدت نفسي في المدينة أتنقل بين بيوت الوجهاء وأرزح تحت أقدامهم ، فذقت ألوان العذاب ، عشت أيام القهر والضيم .
توقفت لتستجمع قوتها وأنا مشدوه من قوة قبضتها على يدي وتابعت بأنفاس متلاحقة:
_ انظر إلى جسدي يا بني ، لن تتصور مدى الآلام التي ذاقها ، ومدى مرارة الأيام التي عشتها بعد أن تركت العمل في البيوت لأعمل في مقهى ، ضحك علي صاحبه فتزوجني غصبا صبرت خلالها عليه وعلى نزواته و ظلم اولاده ....و بعد شهور من وفاته  وجدت نفسي في  الشارع بعد أن أخذ أولاده كل شيء  . لم أجد من يعيلني  وسط تلك المدينة الغول ، حتى العودة إلى قريتي كان أمرا مستحيلا بعد أن تبرأ مني والدي وتنكر لي أهل قبيلتي ، لأنني أتيت فعلا شنيعا في عُرفهم . فلم أجد بُدّا من اللجوء إلى هذه المنطقة المنسية خارج المدينة فاتخذت لي هذا الكوخ مسكنا ، بعد أن وجدت لي عملا في معمل بالضواحي ، وفيه عملت في تصبير السمك لساعات طويلة واقفة على قدمي أمام حزام متحرك.
إلى أن جاء ذاك اليوم، صباح يوم خريفي، وأنا أعبر الجسر كعادتي، سمعت بكاء طفل رضيع ، توجهت نحو مصدره .... كنت أنت ملفوفا في ملاءة صغيرة خفيفة ، و كان هذا الصندوق الخشبي لمسح الأحذية .... يرد عنك الريح الباردة،حملتك بين يدي وضممتك إلى صدري وكأنني عثرت على نفسي وعلى أهلي وحياتي كلها ، عدت بك إلى كوخنا هذا ، فكنت أملي ونوري ......وحياتي ....
ثم توقفت عن الكلام وأرخت يدها من يدي فأعدت الإمساك بها بين راحتي ، أحسست للحظة أنها استردت بعض قوتها و زالت تلك الصفرة التي كانت تعلو وجهها واستحالت حمرة وردية تعلو خديها وقد تجمدت عيناي على راحة يدها تغطيها بقع دم داكنة ،  وتجمد كياني من هول خبر أنني طفل عُثِر عليّ مرميا تحت الجسر ....
*طفل لقيط!!! *
ومصعوقا من صدى تلك الزفرة الحادة التي هزتني من مكاني ، فتوقف صدرها عن الانتفاض إلى الأبد .
كانت هذه المشاهد من الشريط كافية لأن أعود أدراجي تاركا الجسر خلفي .....
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع