القائمة الرئيسية

الصفحات

قراءة نقدية بقلم الدكتورة عبيرعزاوي من سوريا في قصة قصيرة بعنوان اربعية الفقيه للاستاذة الزهراء وزيك من المغرب



قراءة نقدية 

بقلم الدكتورة عبير عزاوي من سوريا

في قصة قصيرة ; بعنوان اربعية الفقيه

للاستاذة الزهراء وزيك من المغرب

  
 ينطبع النص القصصي / أربعية الفقيه / للكاتبة الزهراء أوزيك بعدة ألوان فهو نص قابل للتحليل من عدة نواح إذ يحمل دلالات متنوعة  ايدلوجية واجتماعية وسياسية ودينية صهرتها الكاتبة في بوتقة نص بطلته طفلة لم تتجاوز العاشرة لكنها طفلة متفوقة رغم أنها  تغرق في واقع يعيش صراعاً متعدد الأوجه .وهذا النص يحمل موازاة إبداعية فنية تخيلية تنطوي على الواقع بشقيه الثوثيقي والاستشرافي
ونبدأ من العنوان أربعية الفقيه تركيب إضافي ذي شقين  يحمل مدلولات كثيرة في الظاهر ولها أبعاد أعمق وأوسع  .. الدلالة الأولى  /اقتصادية/ فهو يتعلق بالنقد والمال  و الدلالة الثانية / دينية / وهي تتمثل  بالجزء المتعلق بالفقيه أي الرجل الذي يعلم الأطفال القراءة والكتابة ويقوم بتحفيظهم القرآن مقابل تلك الأربعية ..يشكل العنوان نصاً موازياً للنص الأصلي لأنه يشكل رمزاً بعيد العلاقة بمجريات القصة بل يعبر عنها بشكل رمزي فقط بحرص الطفلة على الأربعية من الضياع وكذلك اضطرار  والدها للعمل عند الفرنسي الذي أطلق عليه لقب /النصراني / وهو لقب يحمل صبغة دينية موحية  للحصول على الأربعية لتتمكن ابنته من متابعة تعليمها الديني تبدو سلسلة من العلاقات المتداخلة المعقدة التي تتكشف من خلال النص تدريجياً لذلك يمكننا القول أن العنوان يشكل عتبة نصية لباقي السرد .
استهلت الكاتبة نصها بوصف جسدي للصغيرة التي تستعد للمضي الى الجامع وتحمل معها قطعة النقود الثمينة التي تحرص ألا تضيعها وكذلك مستلزمات الطقوس الأسبوعية  المعتادة لشرب الشاي وأكل الخبز وغسيل الألواح ..
وتمضي الكاتبة بنا في رفق لنتوصل في نهايات القصة السر في جملة الفقيه التي رددها لخديجة بنت حمادي يوما ما سنفتقدك يا بنت حمادي جملة استشرافية ألقت باللغز المحوري في النص ..
تعد المرجعية الرئيسة للنص القصصي هي الواقع بمفهومه الواسع حيث ينجح القاص في ايصال فكرته وجذب القارئ وتشويقه بمقدار ما يقترب من الواقع ويقدم معطيات واقعية معاشة وشديدة الالتحام بوجدان الناس فالواقع يفرض حضوره بوصف متكأ خطابيا للنص وقد ظهرت قوة حضور الواقع جاء من حيث التوصيف المباشر الذي ورد على لسان البطلة /كانت تفعل كل ذلك وقريناتها يلعبن لعبة الحجلة أو يزين الدمى القصبية ويتبادلن الخرز والحلي ويتفنن في ضفر شعورهن لم يكن يشغلها سوى عودة والدها من عمله على متن دراجته وعليها كومة ضخمة من الحشائش اليابسة /
 والتوصيف الضمني من خلال عرض الحدث الواقعي والتلويح ببعده النفسي وعرض الموقف المناقض له /تساعد أباها على فتح باب الحوش ......وتلمحه يخرج من الكومة الخضراء المائلة إلى الصفرة قطعة قماش وقد لفت بشيء صلب لايبدو إلا أنه بحجم يد أبيها ...../
الموقف النفسي المضاد فظهر من خلال تساؤلها حول تبرك النسوة ببقايا الطعام التي تقدم لهن عقب انتهاء الرجال والصبيان منها بعد العودة من الجامع/ أما النسوة فيكون نصيبهن مما أكلوا بل يتبركن ..لأنه وكما يعتقدن قد تناولت منه أفواه رتلت القرآن وصلت الجمعة في جامع الحارة كم كان يبدو الأمر غريبا وهي التي لاتفارق كتاب الجامع ّ ولاتتوقف شفتاها عن ترديد كلام الله وحفظه أم لأنها لاتدخل الجامع وأن البركة تأتي منه لا من الكتاب والمسيد ..أم لأنها ليست صبياً ... /
الحدث النقيض تمثل في وجود الجنود الفرنسيين المحتلين للبلاد وقد ظهروا مرات عدة وبصور متدرجة من/  النصراني / الذي يعمل عنده والد الفتاة الى الجنود الذين يقومون بدور العسس فيستوقفون الفتاة ليفتشوا وصلتها المحتوية على الخبز  فلاتفوتهم كبيرة ولاصغيرة تحدث في المجتمع المهيمن عليه وثم يتجلى دورهم العنيف من خلال اقتحامهم  منزل الفتاة بحثا عن والدها حمادي الذي تدور حوله الشكوك بقتل العناصر الفرنسية
واقتيادها مع أمها ورجال ونساء الحي لتتكشف تلك الجملة التي نطق بها الفقيه ربما كإشراقة من تجلياته او استقراء مريباً للواقع ومعرفة بخفايا الأمور ..لتنتهي القصة على غير مابدأت ولتحقق ذلك الزخم الفني الذي تدور حوله القصة القصيرة  وتنجح بنجاحه.
يشكل زمن القصة زمانا وقائعياً على مستويين  زمن القصة الحقيقي وزمن السرد فزمن الأحداث الحقيقية  ينفتح باتجاه الماضي فيروي أحداثاً ذاتية للشخصية الفاعلة بشكل موضوعي ويخضع للتتابع المنطقي في سير الأحداث حيث قدمت الكاتبة الزمان بدقة من خلال علاقته بالمكان والشخصيات وطريقة تسلسل الأحداث القصصية
أما زمن السرد اي الحاضر  الذي ينهض فيه السرد فهو زمن لايتقيد بالتتابع المنطقي للأحداث وقد  حكمت علاقات  متنوعة بين زمن القصة وزمن السرد أبرزها علاقات التسلسل والترابط والايجاز والحذف الإضمار والتوقف
أما على صعيد المكان فينقسم إلى حيز جغرافي تعدد بين الجامع والبيت والفرن والشارع والحي وحيز نفسي مرتبط بهواجس وتساؤلات الطفلة عن منعها من دخول حرم الجامع فهو مخصص للرجال والصبيان ويبدو البعد موغلا أكثر في تساؤلها عن سر البركة التي ترافق القادمين من الجامع بالعرف العام ونفيها عنها مع أنها تحفظ ثمن الكتاب الكريم وتتفوق على اقرانها جميعهم بالخط والكتابة ..
وعلى ذلك يتنوع المكان بين الذاتي والموضوعي .
الشخصيات : وهي أهم مكون للحدث فالشخصية الرئيسة شخصية الطفلة التي تحرك  الاحداث حولها بتفكيرها وتساؤلاتها  ..ميزها حواران داخلي وخارجي طغى الحوار الداخلي وهو الذي عكس هواجس وتأملات الطفلة وساهم بنمو الحدث بشكل واضح ..
 ثم هنالك شخصيات ثانوية متعددة هي الفقيه الأم الأب / حمادي الدرويش/  وأهل الحي .. وشخصيات معارضة هي الجنود الفرنسيين و النصراني الذي يعمل عنده والد الطفلة وهو شخصية رمزية قبعت في عمق الأحداث ولم تشارك فيها رغم أنها أحد محركاتها ..
تعيش الشخصية حالة من الانسجام مع واقعها المحيط فكونها طفلة يبعد عنها عنصر الصراع مع المجتمع رغم أن بوادره تظهر من خلال هواجسها وتساؤلاتها ..فهي تسير متجاورة مع صراع أهل حيها مع المستعمر الفرنسي بل أن الصراع ينبع من بيتها وعلى يد أبيها وأمها ..ثم الفران باحماد  وحتى الفقيه ....في إشارة إلى تشارك مختلف فئات المجتمع في النضال ضد المستعمر ورغم أن الكاتبة وصفت الفتاة وصفاً شكلياً ونفسياً لكنها لم تتطرق لوصف الشخصيات المشاركة فقد اكتفت بذكر وظيفة كل شخصية في دفع الحدث دون استطراد وهنا لعب التكثيف دوراً ايجابياً فالقصة القصيرة لاتحتمل الاسهاب في وصف الشخصيات فيكتفى منها بما يخدم دفع الحدث ونموه فالقصة هي حكاية الحدث وليست حكاية الشخصية ..

لعب الحوار دوراً  أساسياً في بناء القصة واعتمدت فيه الكاتبة على المونولوج الداخلي حيناً وعلى الحوار الخارجي أحيانا أخرى واتسم بالمباشرة والسهولة وتصوير مواقف الشخصيات وهذا أعطى للقصة قوة تلاحم مكوناتها  وعمق التأثير
الرؤية السردية:   يتعلق مفهوم الرؤية بعدة أسئلة  من يرى ؟ من أي منظور  هل هناك علاقة  مباشرة مع الواقع أم هناك مسافة  فاصلة
التنوع اللغوي :تنوعت عناصر القصة من حدث وشخصية وسرد وحوار وأفكار  ورؤى وهواجس وتساؤلات وعوالم متعددة الأبعاد وقد ضمتها جميعا لغة القصة بنسيج واحد
في الختام لعبت القفلة دوراً كبيرا في تلاحم عناصر القصة ورغم أنها تنطوي على تحقق استشراف الفقيه للواقع الا أنها لم تحل اللغز الذي طرحته الكانبة في جملته الأولى كيف سيكون شكل افتقاد هذه الفتاة ..وكيف سيكون رد الفعل عليه ..


الوصف في القصة ظهر بشكليه الداخلي والخارجي / وصف المسجد ووصف لعب البنات في الحارة../ وقد قام الوصف بتعطيل زمن السرد لكنه كان مقتصداً ومركزاً فلم يخل بالبناء القصصي ولم يضعفه ..

وبالاجابة عن هذه الأسئلة نجد أن الراوي كان في أغلب الأحيان مساو للشخصية الحكائية فلاتقدم لنا أي معلومات أو تفسيرات الا بعد أن تكون الشخصية نفسها قد توصلت إليها  فنجد  ضمير الغائب  هو المسيطر  ولذلك نعتبر التبئير داخلي والرؤية مع  هي التي فرضت نفسها على السرد ..

سيطرت على القصة البنى اللغوية المباشرة ..أي الأفعال الزمنية الماضية والمضارعة بمدلولاتها المختلفة ..تحقق وقوع الحدث والاستمرارية والتجديد..
قد يبدو من الطبيعي ان تستخدم الكاتبة الأفعال المضارعة في قصة تقوم بسردها فالأحداث تمت في زمن الحكي المباشر وسيطرت النظرة الذاتية للشخصية الفاعلة الأساسية في القصة على جمل وتراكيب اللغة القصصية
واتسمت اللغة اجمالا بالسهولة والايحاء والتكثيف خصوصا في المواقف الشعورية الخاصة بتعبير الطفلة عن هواجسها ونلحظ غلبة المضارع الحاضر وهذا سعي من الكاتبة الى ابراز الحركة القصصية بالتوازي مع حركة الواقع

ختاماً نقول ان القصة حققت تماسكاً مميزاً بين بينتها الداخلية والخارجية ورسمت لحظة قصصية بارعة اختزلت الكثير من المقولات وقدمت الكثير من المعلومات والعبر دون مباشرة أو ابتذال لذلك تعد هذه القصة من أنجح القصص التي يمكن أن تقرأها وستظل طويلا في ذاكرتك وستترك أثراً طويل الأمد وهذا هو هدف الإبداع.

            

قصة قصيرة بعنوان :

أربعية الفقيه

بقلم  الزهراء وزيكٌ من المغرب 

                                                 
سارت بخطواتها الصغيرة ، وقدماها تتعثران وسط الحذاء ، تمسك القطعة النقدية بقوة ، وحين تأكدت أنها قد استقرت وسط راحة يدها ، اعتدلت في مشيتها ، وشدت بأصابعها على الحذاء حتى لا ينفلت من تحت قدميها وتسقط أرضا ، فتحذيرات أمها لا تزال ترن في مسمعيها :
- هذه أربعية الفقيه ، وهذا الكيس وضعت فيه قطعة سكر وحفنة شاي قرطسْتُها جيدا ،  وكسرة خبز أبيض وكأس زجاج ، انتبهي وإياك أن تركضي ، حتى لا تكسريها وتضيِّعي الأربعيّة...إياك
تأكدت من الأربعية أنها لا تزال وسط راحتها ، هي عشر ريالات تجمعها قطعة نقدية صفراء، معدنية سميكة عليها كتابات وخطوط لم تتجرأ يوما على فك رموزها ، بقدر ما كانت حريصة على إيصالها الى يد الفقيه بالجامع خارج الحارة ..
هذا دأبها وجميع أولاد الحارة ، كل يوم أربعاء ، يحملون إلى الفقيه أربعية وسكرا وحبات شاي أخضر ، وبعد  أن يفرغوا من ترديد بعض السور القصار  من القرآن ثم استظهارها بين يدي فقيه الجامع  يقوم هو ومساعده بإعداد الشاي مما جمعوه من الأولاد والبنات ، فيمد كل طفل كأسه ، ويشدها بكلتا يديه  والفرحة تغمره ،  ليقوم الفقيه بملئ كأسه بالشاي الساخن ....كان صدرها ينتفض فرحا ، فكأسها مملوءة هذه المرة و ستتناول خبزا أبيض أفضل من خبز صديقتها رحمة التي تقضم خبز الشعير الأسود ...
كانت جدران الجامع من الطين الأحمر ، ينفتح بابه الرئيسي على ساحة واسعة ، باب من الخشب ، تتوسطه دقّاقة *خرصة* نحاسية معدنية ، وتزينه دبابيس فضية ضخمة برؤوس مقببة، حفرت على أضلاعه نقوش جميلة لآيات قرآنية ، تشده شداًّ كما تشد بنيان الجامع فيبدو قويا متينا ، باب لا يمكن لها ولا لرفيقاتها الاقتراب منه ، فالجامع لا يدخله إلا الرجال والأطفال الصبيان ، كم كانت تتباطأ في سيرها حتى يشرع المصلون في الصلاة ، لتمر أمامه وتختلس النظر الى الداخل ، محاولة أن تستكشف هذا العالم الممنوع عليها وعلى قريناتها ......وهناك وعلى الطرف الآخر من الجامع ، وعبر ممر ضيق ، يجوز لها ولصديقاتها المرور عبره ليصلن الى *المسيد* وهوكُتّاب الجامع ، فيه يتم تحفيظ القرآن لأطفال الحي ...غرفة طويلة مسقفة بألواح خشبية يتم حشو ما بينها بالطين الاحمر والتبن ، جدرانها عالية ، وفي كل جدار نوافذ مربعة غير نافذة ، يضع فيها الصغار ألواحهم الخشبية ، وأقلام من أعواد القصب  وقنينات الحبر وقطع *الصمغ*وأحجار الصلصال  ......
كانت عملية الكتابة على الألواح  متعتها الأثيرة ، فبعد أن يتمكن الصبي أو الصبية من حروف الهجاء ( أَبَتٍ، ثَجَحٍ ،خَدَذٍ ،رَزَطٍ ، ظَكَلٍ ، مِنَصٍّ، ضَعَغٍ ، فَقَسٍ ، شَهَوٍ ، لِأَيٍّ )، يواصل رحلته مع اللوحة  والعلم ، فكانت لوحتها عالمها الجميل ، تخط بالقصبة والحبر أول حروف البسملة ، فتنسج أناملها أجمل الحروف وأبهاها ، وما أن أتمت كتابة سورة الإخلاص ، حتى نوّه الفقيه بعملها وببهاء حرفها على اللوح الخشبي ، فتحضنه وتحفظ وتعيد الترتيل وتكرر بنبرة طفولية عذبة ، تسبي العقول قبل الأسماع ....لقد كان صباح كل  يوم الخميس هو موعد مسح الألواح وغسلها بالماء ،  فيقوم كل طالب حفظ ما على لوحته ، يعيد طلاءها بالصلصال الممزوج بالماء ، ويعرضها خارج *المسيد * لأشعة الشمس ، فيقبع الصغار أمام ألواحهم ينتظرونها أن تجف ....
كم كانت تستهويها لوحتها والصلصال يجف على سطحها فتُحيله حرارة الشمس من لون رمادي غامق الى رمادي فاتح ، يُغريها بكتابة سورة جديدة ، ويشوقها الى مداعبة قلمها القصبي للوحتها الغضّة .....
قال لها الفقيه يوما ، بعد أن اعتدل في جلسته وتنحنح :
آه يا خديجة بنت حمادي ، كم يفرحني أنك قد حفظت ثمن الكتاب ، وتجيدين ترتيله ، وتحسنين  كتابته بأجمل خط ....سنفتقدك يوما يا بنت حمادي .....
وقع كلامه على قلبها كالصاعقة ،
متسائلة :
-لمَ يلمّح الفقيه ؟؟؟ لِمَ سيفتقدني يوما ؟؟؟ هل سيسافر إلى الحج ويطول غيابه ؟ كما فعل جدي ؟ أم أنه سيغادر حارتنا والجامع إلى وجهة أخرى ؟؟؟
لم تسترسل في تساؤلاتها ، ولا اهتمت بقوله اهتماما ، ولكنها حرصت على الترديد والحفظ وتجويد الكتابة ...
كم كان والدها يطربه شجوها بالآيات وسط الدار ، تتنقل من حجرة إلى أخرى وتنط وتقفز وهي تردد:
*إذا زلزلت الأرض زلزالها .....
*إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة.....
*الرحمن ..علم القرآن ، خلق الإنسان ، علمه البيان......
وأمها تكرر خلفها *فبأي آلاء ربكما تكذبان ***
كل هذا كان يسعد والديها ، و ترفرف أرواحهما طربا بصوتها ، فلم تبلغ العاشرة بعد ، وهاهي خديجة ، من دون بنات الحارة تحفظ جزءا مهما من القرآن ، بل تفوقت على صبيان الحارة ....
كانت تفعل كل ذلك ، وقريناتها يلعبن لعبة الحَجَلة أو يزيّن الدمى القصبية ويتبادلن الخرز والحلي ويتفنّن في ضفر شعورهن ...لم يكن يشغلها غير عودة والدها من عمله ، على متن دراجته ، وعليها كومة ضخمة من الحشائش اليابسة ، يجلبها قبل مغرب كل يوم من  بستان الرجل الفرنسي * النصراني* ، الذي يرعى حقله وبستان بيته ، هناك بعيدا خارج المدشر  وعلى طريق الدار البيضاء .....تسمع صوت دراجته قادمة من بعيد ، فتقوم نحو مدخل الدار تستقبله ويسألها عم حفظته من سور ، ويمد إليها أربعية الفقيه ليلة كل ثلاثاء ، فتسلمها إلى أمها ، التي تعمل على وضعها في كيس ، استعدادا ليوم  الحفظ والاستظهار  أمام الفقيه ، والاحتفال بكأس شاي وخبز حاف ، وتسليم القطعة النقدية للفقيه مقابل جهده .....
تساعد أباها على فتح باب "الحوش "خلف الدار ، وهناك زوج معز وخروفان ، يلقي إليها ببعض الحشائش التي جلبها من حقل* النصراني* فتلمحه يخرج من الكومة الخضراء ، المائلة الى الصفرة ، قطعة قماش وقد لُفّت بشيء صلب ، لا يبدو منه إلا أنه بحجم يد أبيها .....وما أن يصبح صباح يوم الجمعة حتى تجد أمها في المطبخ تخبز العجين ، وتؤكد عليها أن تحمل لوح الخبز إلى الخباز ( بّا حمّاد)......
تنتظر إلى جانب أمها وهي تحمل بين أصابعها عودا يابسا ، تخط به حروفا على الأرض ،والخبزتان بين يدي أمها وبخفة متناهية ، تتخذان شكلا دائريا ، وما أن تنشغل للحظة عنها حتى تضع أمها العجين قطعتين متساويتين فوق قماش يغطي * الوصلة* وهو لوح خشبي مستطيل ، مخصص لنقل الخبز إلى فرن الحارة .....ثم تقوم بوضعه وتثبيته على رأسها .
ولكن صباح ذلك اليوم لفت انتباهها أن أمها قد حشت خبزة بقطعة بحجم يد أبيها ، ولكنها لم تسأل عن ذلك ، بل حملت *الوصلة* فوق رأسها مستقيمة تسير بخطى ثابتة ، لقد مر عسكريان فرنسيان جانبها ، ولمست يد أحدهما  قطعة القماش التي تغطي العجين على رأسها ، أرعبها وقع حذائهما ، وخفق قلبها حين لمحت عيناها ظلهما ، ولكنها قرأت المعوذتين في همس مسموع ، وهي تسير إلى  أن بلغت باب الفرن ، فتلقف منها الخباز اللوحة والخبز ، ودخل الى حجرة داخلية ، بعيدا عن العيون ، ليعود بالوصلة بين يديه ، وعليها خبزة واحدة ....استغربت أمره وهو أمام فرنه يرمي بالخبز إلى النار ،
تساءلت : أين الخبزة الثانية ؟
نهرها الخباز : اذهبي ...عودي إلى المنزل ، الجنود الفرنسيون يحومون اليوم بجميع الحارات قبل صلاة الجمعة ، سيعترضون طريقك ....اذهبي ..
ركضت غير مهتمة مرة أخرى . ويمضي يوم الجمعة ككل يوم عطلتها الأسبوعية ، تتناول العائلة بِرمّتها وجبة الكسكس التي تعدها النساء ، طبق قوامه  دقيق السميد المبخر ويسقى بمرق منسم بالقرفة ومعسل بالبصل  و الزبيب ، فيسكب هذا المرق ذي اللون الذهبي  على قطع لحم الخروف الطرية تغطيه جبال من الحمص.....وجبة  الكسكس هذه ، تقدم للرجال والصبيان أولا ، بعد العودة من صلاة الجمعة ، أما النسوة فيكون نصيبهن مما أكلوا ، بل يتبركن من صحنهم لأنه - وكما يعتقدن- قد تناولت منه أفواه رتلت القرآن وصلت الجمعة في جامع الحارة .....كم كان يبدو لها الأمر غريبا ....وهي التي لا تفارق كُتّاب الجامع ولا تتوقف شفتاها عن ترديد كلام الله وحفظه ، أم لأنها لا تدخل الجامع ....وأن البركة تأتي منه لا من الكتاب أو المسيد .... أم لأنها ليست صبيا ....
تراودها هذه الأفكار مرة  ، ولكنها تتركها لمرات كثيرة حتى لا تشوش عليها ترديدها وحفظها للآيات المتبثة على لوحها الخشبي .
كانت تلك الليلة ، لا ... ككل الليالي ، لقد تأخر والدها عن العودة ، كما أن الخبز لا يزال في الفرن ، وأمها لم ترسلها لتبحث عنه ، ولكنها ألحت عليها أن تقرأ الكثير الكثير من السور التي تحفظها ..وما أن شرعت ترتل :
*إذا زلزلت الأرض زلزالها ...
حتى زلزل جسدها وانتفض لذاك الطرق العنيف  ، اهتز له جسد الأم وركضت تفتح الباب ، فإذا بيد تدفعها نحو الداخل وترمي بها أرضا وبصوت أجش مرعب صاح مجلجلا :
-أين ذاك الوغد الذي يُهرّب السلاح ؟....ويقتل به عساكرنا ؟!
أين ذاك الخائن المدعو حمادي الدرويش .....
أين زوجك ....يا امرأة ؟!
التصقت بالجدار خلف باب الغرفة ، وأنفاسها تكاد تتوقف ، لم تعد تلمح أمها ولكن الجنود الفرنسيين ، قلبوا الدار رأسا على عقب ......وأخرجوها وأمها إلى الخارج وألقوا بهما  بين نسوة الحارة ، واقتادوا الرجال .....علا الصخب والصراخ ،واختلط العويل بالنواح ....وتذكرت كلام فقيه الجامع حين قال لها :
-" سنفتقدُك يوما ...يا بنت حمادي"

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع