ريش حمام
هبت ريح خريفية حادة كأوراق الصفصاف ، على سطح المنزل فعصفت بها نحو أصوات صراخ يتلاشى في حضن النسيان ، وتدفقت أهدابها ألما جففته رياح ضفاف دجلة ، أم تحضن الوجع وتلقمه من ثديها الغبن .....تنقلت يداها بين الاقفاص الخشبية تلامس اخر الريشات المتبقية على حوافيها ، تتبعها نظرات تستجدي منها خيط امل وقطرة حياة في عالم مشدود الى عتمة الماضي .....انتبهت على صوت جارتها أم أحمد وهي تردد مولولة من الجهة المقابلة :
- اخ اخ ....اخر الحمامات طارت البارحة ولم تعد .....
تمسكت بريشة بين أصابعها وهي ترد بصوت يكتم شهقة يخنقها الأسى :
- ستعود حتما الليلة يا أم أحمد ...هي لا تستطيع ان تفارق ابني *سمير* وأخته *ميس* ...لا يزال بيضها هنا .....ها أنذا أحضنه بين ريشها المتناثر ...
توارت الجارة خلف كلمات الشجن والأنين وهي تلوح بيد نحو سماء تتكدس في غيمة سوداء ....
ضمت أم سمير بين كفيها ريش الحمام ، تجمعه من الأقفاص وإذا بريشتين تهتزان نحو عينيها فعلقتا برموشها ، وتسمر بصرها على يد صغيرتها *ميس* تمتد نحوها مشيرة :
- أمي ... حمامتان تحطان على رموشك ....
فإذا برفرفة جناحيهما وهما تحاولان أن تحطا على القفص الخشبي وهديلهما يشق صمت الفجيعة فوق سطوح المدينة ، غمرها الحنين وأحست قلبها يقتلع من مكانه والحمامتان تحملانها نحو مياه دجلة وهي تشد بأغصان الصفصاف الرقيقة ، يغمر الماء قلبها فلا يتبقى من جسدها غير سحاب عقيم شاحب اللون ... تحاول أن تتعقب أثر الحمامتين ، من موجة الى أخرى ، وحولها أطفال صغار يعبثون بالماء وتتعالى ضحكاتهم في صخب طفولي ، وهي تتقصى الوجوه البريئة لمحت من بينها ضفيرة شقراء ، بعيدة مشدودة بمقبض علقت به ريشة حمام ، وطفل صغير يشد بيدها يحاول ان يساعدها على تخطي الموجات المتدفقة بين اقدامهما الصغيرة ...ركضت بما اوتيت من قوة ، تسبقها الزفرات وقلبها أمامها يسابق الصغار ..... تعقبت أثرهما بين الوجوه والموجات المتعالية ، وأخيرا .....مدت يدها تلامس كتفه الصغيرة .... استدار الصغير نحوها مستفهما..
لم يكن صغيرها *سمير* وما كانت الصغيرة اخته *ميس*....
طارت العصافير من على أسلاك الكهرباء وعلى الصحون المقعرة التي تغطي سطوح مدينة الموصل ، وصوت المذيع يأتي من بعيد :
غرقت العبّارة *سميراميس* في مياه دجلة بمئات الأطفال .....
😍😍😍
ردحذف❤️
حذف