القائمة الرئيسية

الصفحات

قصة قصيرة بعنوان :
على ضفاف الحب


كلما فتح كتابا يلمحها ، يتأمل خدّيها الورديين  ، فيغلق عينيه  و الكتاب ، ثم يحضنه بكلتا يديه ، يرفع كوب قهوته نحو شفتيه فيجد صورتها  تتربع على صفحتها بعينيها البُنِّيّتَين  تلوّح اليه بأهدابها الكحيلة وبسمتها الساحرة ، يرتشف تلك الابتسامة  بعمق ، وكأنه يرتوي الحياة من محاياها الباسم  ، تتراقص بوشاحها الرمادي بين خيوط دخان  سيجارته تنسجها بخطاها سجادا ملكيا وعيناه تعانقان قدها يتمايس كعهده بها ....صبية رشيقة هيفاء القوام ، وقد شدّته بإحكام وسط فستان طويل حط عليه فراش من كل لون ،  لكن الفستان يكاد يكون فتيلة تشعل نيران قلبه غيرة عليها من الفراش ومن أصدقائه وهو واقف بينهم ،  عند  مدخل الحارة، ينتظر خروجها حتى  تجود عليه السماء ببعض عطرها يستمد بعض القوة ليتملى من طلعتها ، قبل أن تُغيِّبها الأسوار والشرفات والستائر والطقوس .... يعلم جيدا أن كل شباب الحي من أصدقائه يقفون معه  ينتظرون  مثله بعد ليل حار  طلّتها .......كما تهب نسائم الصباح .
 يترقبون خروجها من باب البيت قاصدة  الثانوية .....يكادون يميزون بين صرير الأبواب بل  يجزمون بينهم وبين أنفسهم بأن لأبواب الحارة  صرير واحد  ..... ولكن لصرير الباب بين يديها ايقاع مختلف ، يعزف على نوتات موسيقية معزوفة بحيرة  البجع ....تملأ الحارة هدوءا وخشوعا .....
وما أن يلوح شعاعها من خلف الباب ، حتى تتدلى الكروم عنبا ، وينحني زهر عبّاد الشمس خشوعا لموكبها الملكي ، فيسري بين ضلوعه حفيف الشجر ، وتحط الحمائم تملأ اعشاش قلبه .... انها سميراميس تعتلي قلبه و لن تتنازل ...عنه الى الأبد.
كان قلمه و اوراقه دوما بين يديه لا يفارقها الا لماما ، حين يكون في زيارة خاطفة الى أخته يقضي يومه يلاعب صغارها وينصت مبتسما الى تأنيبها اياه على تأخره في الزواج ، وعلى تهاونه في زيارتها ...لا يجيب أخته ولا يهتم لتوبيخها ، ربما لأن ما يجمعه بها  لا يفهمه ، تبدو له امرأة غريبة عنه ، تركته أمه بعدها لتكمل مهمة التأنيب والمراقبة .... كانت غالبا ما تذكره قائلة  :
- زوجوني ولم أبلغ الرابعة عشرة ، تركتك لا تزال طفلا صغيرا ... لا تتذكر شيئا ...
ولكنه يتذكر جيدا ، وهي عروس ، يحاولون اسكاتها ،وهي تنتحب على صدر أمه.....بينما هو يشد باطراف ثوبها ....هذا كل ما يربطه بأخته هذه .
هذه الذكرى تجعله متأكدا انها أخته ، ولكنها لا تزال غريبة عنه،
 حتى أنها لا تعرف كيف قضى بقية طفولته وشبابه بعد وفاة  أبيه ، ولا كيف قضى فترة التجنيد ، ولا كيف قضى ليالي الأرق والسهر وأمه تفارق الحياة ..نعم ،  كانت أخته ولكنها كانت مجرد شخص غريب ، ضيف يزورهم بين الفينة والاخرى ، بين فرح وترح وتغادر لقد أدرك بعد حين انها تزوجت وهذا هو الزواج وانتهى الامر كما انتهى أمرها .
كان قلمه ملاذه ، يبثه أحزانه فيسكبها قصصا بطعم الحياة ، يتنقل بين المقاهي والاصدقاء ونوادي الادب  ومعارض الفنون و عروض المسرح ،   كلما أنهى فترة دوامه بشركة البناء التي تحتل مساحة مهمة وسط المدينة ....فما أن ينهي رسوماته الهندسية و مخططات تعمير البلد ....حتى يهرب الى اوراقه وقلمه ...الى بطلة رواياته وقصصه .....
أصدرت له عدة روايات و نشرت له مجاميع قصصية ، تناولها النقاد بالنقد والدراسة لكنهم ما توصلوا يوما الى ان طيفا كان يسكن هذه الكتابات ، لقد كانت كانت كتاباته كلها مفعمة  بطيف معشوقته التي أحبها في صمت ، فتركته يبكي أطلالها ولا تدري بوجوده حتى .....ولا من٧ يكون ......
لقد ملأت كتاباته الدنيا ، وسطع اسمه بين أهله و واصدقائه وفي البلد وخارجها ... وصلتها أخباره وقرأت بعض رواياته التي يسكنها طيفها ، ولكنها أنى لها أن تعلم او تدرك ؟؟؟ !!! كان مجرد كاتب سمعت عنه انه من مدينتها ومن بلدها ...وتحدثت عنه بافتخار الى ابنائها والى صديقاتها في بلاد المهجر ....وانتهى الأمر .
لكنها  ، لا تزال تسكن روحه ولا تبرحها ، فيغيب في خضم عطر ضفائرها  وهو يدخن سيجارته الرخيصة ، ويرتشف من قبلات قهوته السوداء المرة ، مرارة يتجرعها منذ ليلة  زفّتها الى بلاد بعيدة ، يترقب اخبارها و يسأل عن أحوالها وعدد اولادها ، يتابع جرائد واخبار العالم لعله يجد بعض رذاذها  ، وبعد ان يطمئن يعود الى كرسيه الخشبي البارد ، في ركن من مقهى الشارع الرئيسي ... وحيدا و يشرع في كتابة رواية جديدة ، يضفر حروفها بخصلات شعرها ، فتملي عليه ما يكتب كلمة كلمة ،
و طيفها  يراقص قلمه الأثير .
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع