القائمة الرئيسية

الصفحات

قصة من الأدب الأسباني لخورخي كامبوس بعنوان : الغريق

قصة من الأدب الأسباني لخورخي كامبوس بعنوان :

 الغريق 


خبط وصاح، ثم تحرك وذرع بيديه، شعر بنفسه يغوص ثلاث مرات، ويطفو ثلاث مرات أخرى، وراح يضرب بساعديه في فوضى،
 ثم ترك نفسه مدفوعًا حتى أمكنه أن يمسك أخيرًا بلوح عائم فتشبث به، تارة يركب عليه وأخرى يضطجع، والأمواج المقتربة تهزه، ترفعه برهة، ثم تتقهقر لكي تخلي مكانها لأمواج أخرى تجيء بعدها، تدفعها أمواج تالية، وتتكرر اللعبة نفسها، وحوله بحر، بحر فحسب، وكرَّس الغريق كل وجوده ليمسك باللوح في شراسة، وليبتلع جرعات من ماء مالح، وليتأمل..
كان يفكر، لا شيء مما يمكن أن يتذكره وجد في العالم يومًا، منازل.. وترام.. وفتيات.. وأرض، إنما كانت كلها وليدة خياله، فليس العالم غير غمر يطفو فوقه، وليست السماء كما تبدو له غير انعكاس لمعبر أمواج تعود لتضع نفسها من حيث جاءت، كممثلي الكومبارس على المسرح، يتظاهرون في عرض طويل خلف الكواليس، لكي يظهروا مرة، ومرة أخرى في نفس الفصل!
كان الماء يضربه بغير انقطاع، وكان يحاول أن يحسب، كم من الزمن تتأخر كل موجه حين تبتعد وترتد بسرعة لتعود ومعها حفنة ماء، فتقذف في معدته قليلاً من الملح، لكن كان من المستحيل عليه أن يتبين الأمواج الماكرة!
واستمر على هذا المنوال يومًا، فيومين، فثلاثة، ومع الزمن أصبح أقل تفكيرًا، وقد تمدد على اللوح تاركًا ساقيه وذراعية يقعان خارجه، كأنه مصلوب على صليب يوناني الطراز، وكانت معدته تلم جوانبه، ورأسه دائخ ملفوف في بخار الجوع..
لا شيء .. لا شيء كان موجودًا في العالم غيره، وفكر في كويرة من ورق، قذف بها ذات مرة في بركة، فكانت تعلو وتهبط وتسير في حركة دائمة على الأمواج الصغيرة الخضراء والزرقاء، ومع ذلك كانت في نفس مكانها، ألا يمكن أن عقله هو الذي يخونه؟ أحقًا رمى كويرة الورق وتأملها؟ ربما لم تكن هناك أبدًا كويرة ولا برك في أي مكان، وربما كان هو من يرى نفسه صاعدًا هابطًا دون أن يتحرك من موضعه!
كان يغفو، في البدء لثوانٍ قصيرة، وأخيرًا لساعات طويلة، وفي مرة وقع من اللوح، فكان عليه أن يستنفد قوى هائلة لا يعرف من أين انتزعها لكي يصل إليه ثانية، وقد وعى جيدًا أن ذلك لو حدث مرة أخرى فسيصبح صريع الماء، دون استئناف، ودون إمكانيات التفكير في الكويرة، ودارت تحت جمجمته دوامة زرقاء مالحة، وأخذته غفوة، ثم انتبه فبدل وضعه بكل عناية، ونظر إلى الأفق الكليل..
كيف ذلك؟ أكان ممكنًا؟ .. نعم.. نعم!، كان في العالم خشب وقمصان ورجال ونساء. وفجأة استرد وعيه من الكون سريعًا، وبعيدًا كان يبدو له رمث صغير، ذو رقعة من قماش ترفرف على سارية، فأعطته البهجة شجاعة، وبدلت ضعفه قوة، فوجه إليه مركبه الساذج بكلتا يديه وذراعيه..
لم يكن الطريق سهلاً، وأعتقد أنه إن ضعف فلن يتمكن من إدراكه، أو يصل إليه ميتًا، وكان في الرمث من يومئ إليه مشجعًا، ويجتهد أيضًا ليختصر الشقة التي تفصل بينهما، حتى تلاقت الخشبتان في صدمة صماء، فكلتاهما كانت رطبة!
نعم، ليس ثمة أدنى شك، كان الإنسان موجودًا، وكان هناك الحنان والأخوة، واكتشف في كل الوجوه التي ركزت اهتمامها فيه، على الرغم من أنها عرضت له غامضة ذات ضباب، فرحة فائضة، غامرة، ساحرة، لا يمكن تفسيرها.
تركهم ينزعونه بقوة من تحت إبطيه، عن الجذع الذي كان ملتصقًا به، وتمدد على الألواح الجديدة العريضة، الأقل رطوبة، مستريحًا في تراخٍ كامل، دون أن يضيق بمحاولة الحفاظ على توازنه، وألقى غير واعٍ نظرة إلى الرجال، وتبسم في ضعف، ولكنه استطاع أن يسمع بين الضباب صوتًا مهتزًا مرحًا، مجللاً بالتأثر، يقول:
- بعثه لنا القدر!! لم يرد أن أكون أنا الضحية، عندما خرجت في القرعة، وطلبت منكم معروفًا، أن تنتظروا عشر دقائق، تذكرت أن الله بعث كبشًا إلى إبراهيم، ولم يترك أمته الخاطئة تهلك في الصحراء، فشعرت بأنه لن يتخلى عني في هذه المرة .
وبعد أن بدل لهجته بأخرى أكثر حزنًا أضاف "ساندرس" بائع التوراة السمين، في نبرة آسفة:
تباركت العناية الإلهية، وقد جاءتنا بالغريق الذي نحتاج إليه.. كان سيموت على أي حال!

تأليف : خورخي كامبوس
ترجمة الدكتور الطاهر مكي

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع