القائمة الرئيسية

الصفحات



قصة قصيرة بعنوان :

  أنف جدي


كان أنف جدي هو كل ما يستهويني في قريتنا كلها  ، أظل أتأمله وأنا في حضنه ، أستكنه مكنوناته جائلا ببصري في أعماقه ، أسبر أغواره ، أبحث فيها عن بطولات جدي ببندقيته ، عن حكاياته التي  لا تنتهي ، أضع يدي الصغيرة وأقارنها بيده وهي وسط راحته الدافئة ،  ألاعب أصابعه الطويلة واستمتع بملمسها وكأنها حبات فراولة يغطيها جلد رقيق ناعم جدا .

كان أنف جدي طويلا حادا يتوسط وجهه فيبدو فمه دقيقا ، بل لا أثر له ، مختفيا بين شعيرات متناثرة من  شاربه الخفيف ، أما عيناه فكانتا أحن ما في وجهه ، رغم حدة أنفه وصلابة تقاسيمه ؛ تشعان حنانا كلما انحنى ونظر نحوي ، لكن بقدر ما كنت أفتخر بأنف جدي الطويل الحاد بقدر ماكنت أخاف من حاجبيه المقطبين الكثين تحت عمامة ضخمة من الكتان الابيض الناعم ، لقد كان وجه جدي عالما لوحده ، أستمد  القوة من بعضه ومن بعضه الحنان .

 كان جدي سيد القبيلة بل كنت أعتقد أن الجميع يحترمونه ويكنّون له التقدير خوفا من  أنفه هذا .

لم يستطع حنان جدي وعطفه علي أن  ينقذني صبيحة ذاك  اليوم القائظ  من بين يدي أمي وهي تشدني نحو قاع الإناء المملوء بالماء الساخن ، تحاول أن تغسل جسدي الصغير  وتفرك فروة رأسي جيدا وتمشط تلك الضفيرة التي تتدلى من أعلى كعُرف ديك لتتشكّل حبلا مفتولا على ظهري  ....هي تجر نحو الأسفل وأنا أحاول صارخا أن اتفلّت من قبضتها ، سمعت صوت جدي من خارج الحمام ينادي باسمي في صوت أجش : 

- اهدأ يا سي محمد ، فاليوم يوم عرسك ، يجب ان تكون نظيفا ، لأنك ستصبح رجلا .

كان صوته كافيا لأستسلم لقبضتها ، فتتنفس الصعداء ، تسكب الماء الدافئ من أعلى ، وتفك الضفيرة اليتيمة على رأسي ، وتشرع أخيرا وفي هدوء ، تمشّطها مرتاحة وهي تدندن بأغنية أمازيغية قديمة ، أحسست للحظة ان هذه الأغنية سبق ان سمعتها في بيت عمي  صبيحة طهور ابنه أحمد ..ولكن كلمات جدي شوشت تفكيري :

* اليوم ؟ يوم عرسي ؟ كيف ؟ هل سيقيمون لي عرسا كأختي فاطمة ؟...هل سيحضر أهل القبيلة من كل قرى الجبال المجاورة ، تخيّلت نفسي أقعد في ركن من غرفة جدتي وحولي النسوة يغنين ويضربن  بالدفوف والتعاريج ، ويتناوبن  على ترديد  الأهازيج الامازيغية وانا في لباسي الابيض منحني الرأس خجلا ...فجأة انتبهت من غفلتي منبها : 

لقد قال جدي انني سأصبح رجلا !! 

لا تزال أمي تجر شعري وتعاود ضفره وربط حاشيته برباط ابيض ناصع وطفقت تنشف جسدي.

تمهلت أمي وهي تُدخل بخفة جسدي النحيل في قميص أبيض طويل يسمى *الفَرَجيّة* يُربَط حول العنق ، ثم أتبعته جلبابا ناصع البياض فبدوت حقا عريسا وأنا أخرج من الحمام ، استقبلتني جدتي مهللة  بالعناق الحار ، ودسّ جدي يده في جيب سرواله 

* القندريسي * الفضفاض  ليخرجها أخيرا بقطعة نقدية صفراء ، وضعها في كفي الصغيرة وهو يجرني نحوه ليهمس في أذني : 

- تبارك الله على سي محمد ، صرت  رجلا ....تعالى معي الى الدُّويْريّة ...هناك الكثير من الضيوف ؛ رجال القبيلة ينتظرونك  .

كانت الدُّويريَة منزلا منفصلا عن منزل جدي ، لا يدخله إلا الرجال ، أما النسوة ، فلا يدخلنه إلا يوم السوق قصد تنظيفه بعد أن يذهب رجال الدار للتسوق .

أحسست و يدي في يد جدي بنشوة غامرة ، رفعت يدي اليمنى أتحسس أنفي متسائلا : 

- ماذا يقصد جدي ؟ هل حقا سأصبح رجلا كبيرا جدا ؟ هل سيكبر أنفي ويصبح مثل أنف جدي ؟ 

شعرت ببعض الأسى وأنا ادقق بأصبعي حجم انفي .

لم انتبه ليَدي أبي تتلقّفني من جدي لتضعني وسط حشد من ضيوفه بين  يدين غريبتين منبها : 

- اجلس يا ولد وبلا صراخ 

 حاولت أن أمسك وبشدة القطعة النقدية ملتمسا الخلاص منها ، فإذا  بصوت جدي يلاحقني وهو واقف امامي : 

- سي محمد ...يا اوليدي انظر ...انظر

الى السقف ...عصفور صغير قد عشّش في السقف ...

رفعت بصري ، ليس الى السقف ولكن نحو أنف جدي أستنجد به ، لقد أحسست بألم حاد بين فخذي والدم قد تطاير نحو جدار الغرفة ...واختفى أنف جدي ، وجدتني بين يدي أمي وحولها النسوة لا يتوقفن عن الزغاريد والغناء ، وقد ملأن حجري بأنواع القطع النقدية والحلوى ...

  انتبهت على رائحة الطعام تملأ المكان ، كانت القدور تنضح وصهد البخار يملأ أرجاء البيت، روائح اللحم والتوابل الحارة تخترق أنفي الصغير ، تذكرني  بعرس أختي فاطمة ، ليلة حملوها على كتف أخي عبد الله وقد ربطوا رأسها بوشاح أصفر دست فيه باقة حبق وريحان، اما جسدها الصغير فقد لفّوه لفّا في ثوب أبيض لا يُظهر منها شيء ، ثم امتطى بها صهوة جواد وتبعته النساء واهل القرية بالأهازيج ومن يومها لم أر اختي فاطمة؛  يقولون انها ذهبت الى بيتها لتخدم زوجها وأهله في قرية بعيدة ، فأصبحت أختي فاطمة امرأة لا أميز بينها وبين بقية النساء ، اختفت صورتها من مخيلتي كما اختفى أنف جدي ، ولم يتبق منها غير بقايا صور ، سرعان ما تتحرك  في ذهني كلما دخلت غرفة المضافة بالدّويريّة ، فقطرات الدم المرشوقة على الجدار ، مازالت حارة طازجة رغم مرور وقت على ماحدث قبل مجيئنا اليوم بحلول  موسم الحصاد  و ما يرافقه من  احتفالات المواسم  وحفلات  الطهور والأعراس .

 


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع