القائمة الرئيسية

الصفحات



قصة قصيرة بعنوان :
  مقهى الانتظار 


وصل المقهى متأخرا يحاول ان يخفي لهاثه بيده وهو يمسح قطرات العرق تنزّ من جبهته وأنفه الضخم ، لم يستطع ان يخفي تتابع أنفاسه وهو يتخذ له مكانا بين زملائه الذين التفتوا اليه أخيرا فرفعوا رؤوسهم دفعة واحدة نحو جثته الضخمة ، ألقى التحية سريعا كما ألقى بين رؤوسهم ملفا أصفر باهتا فتفرقت مجموعة من  الأوراق على سطح  الطاولة ، فتناول كل واحد منهم ورقة يقلبها بين يديه وعلامات استفهام كبيرة تكاد تقفز من عيونهم التي تلمع نشاطا وحيوية ، كانوا كلهم شبابا في مقتبل العمر تبدو العروق فاترة من أذرعهم ،  وصدورهم تتقد شغفا وحياة، بغثة صاح أحدهم : 

- وأخيرا ......سوف نحصل على عمل .....كيف جرت الأمور في المدينة يا عبده  ؟ 

مال عنه عبده نحو العم أبو أحمد  يلوح بيده المترهلة :

- كأس ماء يا عم أبو أحمد .

ثم ارتمى على آخر كرسي شاغر بينهم وهو لا يزال يغالب حرارة ذلك اليوم القائظ، 

استقبله العم أبو أحمد بعينين لامعتين وابتسامة كشفت عن أسنان متهالكة وجسد اقتات منه الوهن حتى لم يعد يقو على السير الا وهو يجر قدمه اليمنى خلفه متوسدا  خصر قدمه اليسرى ، وقف أمام الجماعة  وهم لا يزالون يتبادلون النظرات ويتحسسون الاوراق ، لا يستطيعون السؤال ولا يفهمون ما تخبئه أيام الجفاف 

 - تفضل يا عبده ..الماء قليل ، لن يطفئ عطشك ....أنت أدرى بأحوال القرية ...العيون جفت والآبار شحت .

تناول منه الكأس ، تنفس الصعداء وهو  يحاول أن يستجمع قوة صوته ويفتح عينيه اللتين أرهقهما الحر : 

- لقد قمت بجميع المحاولات ، يا شباب،  رئيس البلدية يرفض أن يسلمنا ترخيصا لحفر بئر جديدة  في القرية .....

انتفض الشباب فوق الكراسي المهترئة ، ينددون ويشجبون موقف الرئيس ، وهم المستعدون أن ينفدوا العمل بسواعدهم ولن يكلف ذلك البلدية الا توقيعا بسيطا ، و آلة للضخ ......

لكن عبده طمأنهم ، بأنه سيتابع الملف ولو اقتضى الأمر السفر الى العاصمة ومقابلة المسؤولين الكبار ، ولكن بشرط أن ينتظر أهل القرية دنو  موعد الانتخابات ، فإنه أحسن توقيت للمطالبة بالحقوق ، و تقديم الطلبات ، فالأذان كلها تكون صاغية.

عاد العم أبو أحمد أدراجه الى مكانه في ركن من المقهى يجر قدميه جرا ، وطأطأ الشباب رؤوسهم واستسلموا لأشعة الشمس الحارة تقتات من نضارتهم لترسل بأشعتها الذهبية على الأراضي فتزيدها قسوة ، جفاف قاتل ، أراض عطشى ، الشجر

على الطريق قد تعرى  من ورقه دون خجل ، و جفت الحبوب في أغشيتها ، واشتعلت سعف النخيل شيبا،  فيبست الشفاه وتشققت ، وترهلت البطون ، ساد القرية صمت قاتل وسكنها الحزن ولم يبرحها .

غادر الشباب المقهى يجرون أذيال الخيبة ويمجّون مذاق القهر والمهانة ، تركوا الأوراق والملف خلفهم  مشتتة فوق طاولة في ركن من المقهى ، والعم أبو أحمد قبالتها يتأملها تتحرك وتهتز بين آخر خيوط شمس الأصيل ،  فإذا بها تتطاير في كل أركان المقهى  ، اسودّت الأرجاء وهبت عاصفة مطرية رجّت لها  القرية ، أغلق العم أبو أحمد النافذة الوحيدة للمقهى وتوارى خلف بابها المتآكل تهزه الريح في انتظار الفرج ....وتحت قدميه الاوراق قد انغمست في الوحل ...



هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع