قصة قصيرة بعنوان :
أم الأسير
تهتز الحافلة المتهالكة عبر الطريق الصحراوي ، تكاد رياح الخريف تطيح بها ،زجاج النوافذ يصطفق مع الحواف محدثا زئيراً يعكس مايعصف في قلب أم أحمد.
مدت يدها الى الأغراض التي حرصت على ان تكون كاملة لاينقصها شيء ، اليوم ستزور ابنها لأول مرة منذ اسره ، ثلاثة أعوام مرت لم تعرف عنه شيئا ،قالت في نفسها :
-آه ياإلهي ، ألهمني ذرة صبر على هذه الطريق الوعرة و لا تحرمني من التملي في وجه حبيبي أحمد .
فشهقت شهقة كاتمة اهتزت لها أجساد النسوة ، وانتفضت لها القلوب الواجفة ، فتمايلت الرؤوس وطأطأت من الكمد فاستسلمت لعتمة الطريق ، والعيون ناعسة من وطأة الأسى .
عاودت أم أحمد الاعتدال في جلستها على كرسي الحافلة المتآكل ، وأومأت الى العجوز جنبها تطمئنها بنظرة حانية ، لمعت وسط الظلمة التي تغشى أرجاء الحافلة و هي تطوي الطريق الصحراوي طيا ، تنبض بأفئدة يشدها الشوق والحنين ، فيكبل أبصارها نحو المجهول .
مدت أم أحمد يديها تتحسس عكازها على حاشية الكرسي ، فاطمأنت الى وجوده بجانبها ، فستكون في أمس الحاجة اليه ساعة اللقاء ، ثم انحنت نحو ركبتها اليمنى لتتأكد من المنديل الشريطي الذي يربطها ويخفف آلامها ، تعرف جيدا أن هذه الجلسة المطولة على الكرسي ستزيد من آلام الركب ، وستقعدها وتشدها الى الكرسي شدا ، ولكنها تحس بقوة بداخلها وتؤمن بأنها ستعينها على القيام متى توقفت الحافلة فجرا على الحدود ، وتؤمن بأن هذه القوة سترفعها رفعا وتنزلها عبر درجات الحافلة لتلقي بنفسها بين أحضان صغيرها .
أحمد الثائر ، ذي الثلاثين عاما ، لا يزال صوته يرن بين ضلوعها قبل مسمعها ، ولا تزال رائحة عرقه عالقة بأنفها الصغير ، وملمس يده بين يديها لا يغادر كفيها وهي تشد بهما ، وقوات الاحتلال الغاشم تنتشله من بين أحضانها ، لقد أحست في لحظة ما ، والخيط الابيض يتبدّى من الأسود مخترقا زجاج الحافلة ، أحست بنغز يخز نهديها وكأنها قد تأخرت عن رضيعها فسابقها حليبها اليه .أحست بكل هذا وقلبها يكاد يغادر صدرها نحو المعتقل هناك على الحدود .
ترجلت تستند الى عكازها ، بعد أن غادرت الجموع الحافلة ، سارت تتابع خطو من سبقوها ، وأنفاسها تسابقها ، وهي تحاول ألا تضيع ما حملته اليه من رزم ، و تشقى أن تتابع الأقدام أمامها حتى لا تتأخر عن الجمع .
فجأة توقفت الجموع أمام البوابة الرمادية ، وارتفع صوت خشن يهز الأرجاء محذرا ،فانتفضت له الأجساد الواهنة و زفرت الأنفاس،صارخا عبر مكبر الصوت :
- توقفوا ..
فتوقفت القلوب ورجفت الأقدام ، وانهارت أبدان وتمايلت نحو الأرض تفترشها .
تبادلت النسوة نظرات الأسى والخيبة ، وخبا البريق الساطع من الأعين الحانية ، فرفع الشباب أيديهم مستنكرين ، ولكن الصوت عاود وعيده :
-يمنع الاقتراب من البوابة ، ولن يتقدم الا من سمع اسم الأسير الذي يقصده .
توالت النداءات والأسماء وتتابعت الاقدام تسير خفيفة فرحة ، وكلما قامت من جانبها احدى النسوة ربتت على كتفها مواسية وغادرتها نحو البوابة لملاقاة ابنها او زوجها او أخيها . ولا يزال اسم أحمد لا يصلها عبر مكبر الصوت ، ولا تزال أنفاسها تتوارى خلف الأصوات المتداخلة بين صيحة لقاء وزغرودة فرحة ، الى ان غادرها آخر نفس فمالت على رزمتها تتوسد أغراض ابنها أحمد ، لتحضنه من خلالها ، وتحملها الى حيث يحلق بعيدا ، ويحملها على جناحيه ،
والزغاريد تكسر صمت قفار المعتقل .
تعليقات
إرسال تعليق