قصة قصيرة بعنوان :
أنوثة مُعَلّبة
لا تزال ملامح عامل الشاحنة عالقة بين عينيها ، فتبث الرعب في جسدها الغض الطري ، لقد تدلى أنفه وتحلّبت شفتاه حتى كاد أن يلتهمها وهو يفتح لها الباب الخلفي للشاحنة ، رفعت جسدها بخفة رغم ثقله وألقت به بين زميلاتها العاملات المتكدسات داخل عربة الشاحنة ، خائفة أن يلحق بها ككل مرة ويلصق جسده بها متعللا بإحكام إغلاق الباب والإمساك به ...وأنفاسه اللاهثة تخنق أذنيها وتجثم على صدرها ...قبل دقائق معدودات انفلتت وبصعوبة من قبضة لهاث العجوز عمي صالح ؛ صاحب العربة الوحيدة في القرية ، حملها من الدوار ليحطّها على الطريق الرئيسية حيث تمر شاحنة عاملات معمل السردين..لقد تولّت أمها تسليمها له عند غبش الفجر ، كأمانة ناصحة إياه أن يحميها من ذئاب الطريق ، وما أن يكز حماره ويبدأ بجر العربة حتى يهتز جسده منتفضا فيتمايل نحو موضع جلوسها جنبه وهو يستغفر الله ويستعيذ بالشيطان ، فيهوي على الدابة المسكينة بالسوط كأنه يحاول أن يطفئ نارا مستعرة في كل جسده .... إلى أن يسمعها تقول له مستجدية وببراءتها المعهودة :
- مابك ياعمي صالح ....الحمار المسكين يسير بشكل سليم ...كفى من إحراق جلده بالسوط .....
فيتوقف عن السوط وعن حمحمته ثم يشرع في همهمة بكلمات لا تفهم منها غير الاستغفار والاستعاذة من الشيطان الرجيم ....
يعود الى مكانه وقد تكور في جلبابه الرث ، وهي تتأمله مستغربة ، متحيرة في أمرها ، بين تهدئة جسدها الممتلئ من الاهتزاز وهو على هذه العربة المهترئة وبين إيقاف هجوم العجوز المتهالك على الدابة المسكينة ...
تشيح بوجهها عنه مقززة من منظره وهي تشد بيدها عمود العربة بقوة متسائلة :
- مستحيل أن تكون نية هذا العجوز، وهو بمقام جدي ، نية خبيثة مُبيّتة كنِية الميلودي عامل الشاحنة ....
لا تدري لحظتها ، لماذا تذكرت وهي طفلة صغيرة ، منظر أمها وهي تشدها بقوة بين فخذيها متذمرة ، حتى تمشط لها شعرها الكثيف المتموج فتضفره ضفيرتين تشد طرفيهما بخيط سميك...كانت تشكو انزعاجها من امتلاء جسد ابنتها *الغالية* وبروز أردافها وخاصرتها ونهديها ، وكل مرة تردد شاكية على مسامع الجدة امي فطومة :
- آه يا أمي فطومة ، شوفي هذا الجسد الممتلئ لن يجلب لنا غير متاعب نحن في غنى عنها ، لسنا إلا مجرد نساء وحيدات .
فترد الجدة أمي فطومة مؤنبة :
- إنه جسد ورثته عنا ، عن عماتها وأعمامها ، القامة الطويلة والبياض والجسد المتين الممتلئ ....سلالة دُكّاليّة ( منطقة دكالة ) تملأ العين ما شاء الله ، لا أحد يشبهنا ...
تجر الأم بعصبية الضفيرة نحو الأسفل وتجر رأس *الغالية *معها الى الخلف ، فتكتم الصغيرة آلامها وصرختها ، حتى تتبيّن ما الذنب الذي اقترفته لينالها كل هذا الوجع بين يدي أمها وهي ترد على الجدة :
- اييه يا امي فطومة أورثونا المصائب ...الناس ترث الأراضي والأموال ونحن لم نرث منكم ومن سلالتكم غير هذا اللحم النتن ......
تحاول أمي فطومة تهدئة كنّتها :
- لا تخافي عليها ، ألبسيها جلباب أبيها رحمه الله ...واسع وفضفاض ويحميها من عيون الذئاب ...
تتذكر *الغالية* كل هذا بألم وهي على متن عربة عمي صالح يجرها حمار هزيل .... أنفاس العجوز تلاحقها فلا تصل جنب الطريق الرئيسية المؤدية إلى ميناء الدار البيضاء في انتظار شاحنة المعمل و مطاردات عيون العمال وعلى رأسهم " الميلودي" حتى تحس باختناق وضيق تنفس ، تتمنى لو انشقت الارض وابتلعتها لترتاح من هذا الكم الهائل من الهم الذي يحمله كل طرف من جسدها ....
تصل الشاحنة باب المعمل ، فتتقافز النسوة منها والفتيات كما سمكات السردين وسط شباك الصيد ، بعد أن تخرج من الماء ، تتقافز منتفضة تلتمس قطرة ماء تستجدي منها هبة حياة ....إلى أن تسلم روحها لصائدها .
تقف مكانها أمام حزام متحرك ، فتتحرك أمامها العلب المعدنية متتابعة تستقبلها بيديها الممتلئتين واحدة تلو الاخرى ، وبحركة خفيفة تجعلها تدور نحو الأنبوب الممتد من أعلى يلقي بدفقات متواترة من زيت ثقيل لامع ، فتبدو السمكات الفضية وكأنها تتلذذ بحرارته وهي تغطس وسطه ، وبأصبع واحد تدفع العلبة المعدنية لتتقدم بعدها علبة ثانية فثالثة .
يعبر الحزام المتحرك المصنع بشكل دائري ، وأمامه تقف الفتيات والنساء في كل ناحية ، لا يبدو منهن الا أحجامهن من طويلة وقصيرة الى بدينة ونحيفة ...تبتسم الغالية وهي تتذكر رأفة المراقب بها يوم نقلها من ورشة تنظيف السردين وإفراغ أحشائه الى ورشة الحزام المتحرك حيث تستمر *الغالية* في مداعبة العلب بأصابعها تحت أنبوب الزيت الحار اللامع متبّل بالملح وتوابل حارة ....ينزل على أجساد سمكات السردين وقد تجردن من كل ما يربطها بالماء والحياة ، لا رأس ولا أشواك ولا عظام ولا حتى تلك الزعانف الدقيقة ، سمكات لم يتبق منها غير قطع لحم طري يكسوه رداء فضي لامع يغري بالالتهام .
تذكرت *الغالية* جسدها الطري الغض وهي تقلّب إحدى العلب ، رأت نفسها مثل سمكة سردين تختلف عن أخواتها ... ممتلئة وما أن رمت بصرها عليها حتى اشتهت التهامها رغم أن رائحة السردين التي تزكم الأنوف جعلتها تنفر منه ومن تناوله ، ولكن أمام هذه السردينة الممتلئة لا يمكن أن تتحكم في انفتاح شهيتها على مصراعيها، تمنّت لو التهمتها مع حبة الفلفل الحارة الصغيرة فوقها ، وهي التي لم تتناول كسرة خبز منذ خمس ساعات متتالية من العمل أمام هذا الحزام اللعين ، نظرت نحو سمكة السردين الممتلئة ، التقفتها بخفة ووضعتها بين فكيها وتابعت بأصابعها تحريك العلب تحت الأنبوب ، وما أن رفعت بصرها قليلا نحو الأعلى ... والسمكة لا تزال بين أضراسها ، حتى لمحت المراقب في قميصه الأزرق الواسع ، وهو يتأمل جسدها بتلذذ وجبينه يتصبب عرقا يخفي ابتسامة ماكرة بين شفتيه الغليظتين ....
صافرة الاستراحة تصمّ أذنيها ، و رأس المراقب ويده وكل جسده تلوّح لها أن تلحق به إلى مكتبه في الأعلى .....
تعليقات
إرسال تعليق