قصة قصيرة بعنوان :
البَتُول
وككل عام ، ينقضي الصيف مخلفا خلفه هكتارات من الأرض العطشى ، و هكتارات من الأشجان تملأ القلوب الظمآى ، أراقب مدخل رياض الحاجّة أم الغيث الذي لم أبرحه منذ ثلاث سنوات خلت ، فلا يزال صدى كلمات أبي التي يرددها كل عام على مسامعي تشدني لأبقى هنا :
( الله يرضى عليك يا ابنتي خدّوجة، أخوك سعيد قد التحق بمدرسة داخلية والمصاريف كثيرة . )
هكذا يهمس أبي إليّ ، نهاية كل صيف يزورني ثم يمسح على رأسي وهو يشيح بنظراته ، فأتعقبه محاولة بكل جوارحي أن أنتزع ولو ابتسامة مصطنعة من بين شفتيه ولكنه سرعان ما يغادر مدخل باب الرياض.
أودعه بعينين لاهثتين دامعتين ولكن نشوة غريبة تتملكني يخالطها شوق إلى أخي الصغير و الوحيد ، فأبتسم كلما تخيلت أنني أحمل معه الكراريس والأقلام وأرافقه الى المدرسة ،فأعود لأرفع أطراف فستاني الأزرق لأجثو على ركبتيّ النحيلتين وقد برزت عظامهما من سروال خفيف فضفاض ، فأهوي بيدي الصغيرتين ، أمسح بكل ما أوتيت من قوة تلك المربعات التي تكسو بلاط الرياض ، وكلما انتقلت قدماي الصغيرتان من زليجة بيضاء إلى أخرى سوداء شعرت أنني لن أبرح هذا المربع الأسود ، وأن حياتي ستكون حبيسة أضلاعه المحفورة في البلاط حفرا ، أتحسّس ثناياه ونتوءاته بأطراف أصابعي وأكتشف حواشيه ، تغمرني الفرحة وأنا متأكدة بأن تعليم أخي سعيد رهين بحبسي في هذا البيت الشاسع وخلف مربعات الزليج السوداء ، فتبدو جدرانه كأنها أسوار سجن كبير لا حد لها ، وأزهار حديقته كقضبان تحُول بيني و بين ما حولي ، بل كان كل مربع رخامي زنزانة مظلمة . أحوم حول النافورة وسط الرياض ، أمسح رذاذ الماء وأواظب على التنظيف والتلميع وأصيخ السمع إلى مدخل الدار ،وكلما سمعت دقاقة الباب ،أحس وكأن قلبي سيقتلع من مكانه، كنت أنتظر بشوق مقدم أبي ليحملني معه إلى قريتنا .
كان الرياض أشبه بقصر فخم واسع من أفخم رياضات مدينة مراكش بحي النخيل ، تحيط به حديقة غناء مُسيّجة ، تحفّه أشجار ظليلة على واجِهته الفخمة فتُسيّجه ، ولطالما انتظرت عبر السياج مقدم أبي علّه يسافر بي إلى قريتنا بجبال الأطلس ولكنه كل مرة يقف عند المدخل،يتسلّم من الحاجة أم الغيث أجرة عام مقدّم ،ثم يغادر مسرعا .
كانت الحاجّة أم الغيث أرملة أحد الباشاوات ،رأيتها أول مرة قادمة نحونا وهي تتهادى في مشيتها الثقيلة ، انبهرت بقفطانها المخملي الأحمر و بألوان تطريزاته، رفعت رأسي لأتملى هامتها الفارعة الطول ، وبصعوبة اكتشفت ابتسامتها وهي تحدث أبي من خلف الباب الموارب بعد أن مدّت يدها فتسلمتني كما يسلّم الراعي الشاة الى حتفها ، كانت ابتسامتها عريضة كشفت عن أسنان لامعة ، بعضها مغلف بالفضة ، وقد ربطت رأسها بمنديل أحمر ،لكن ذقنها كان أبرز ما في وجهها ، تخترقه خطوط متقاطعة بالأخضر القاني ،تخط وشما بارزا فوق امتداده كما يخترق خط أخضر عمودي بين حاجبيها الدقيقين كهلالين يلقيان بنورهما على هذا الوجه البلوري السمح .
ضمت وسط راحتها الرطبة الدافئة يدي الصغيرة فجرتني نحو مدخل الدار . كل ما كان عليّ هو أن أساعد في أشغال الرياض ، كما يتوجّب علي أن أتقن خدمة الحاجّة .
تحتل أريكة الحاجة أم الغيث ركنا كبيرا من غرفتها ، فترى الغرفة تمتد على طول الجهة الشرقية ،تخترق أشعة شمس الصباح جدرانها ، فتحيط بها المرتبات والمطارف من كل الجوانب والوسائد المطرزة والستائر المخملية واخرى شفافة تتدلى على نوافذ الواجهتين ، ونادرا ما تقوم الحاجّة من مكانها، فكل ماتفعله هو مداعبة سُبحتها واستقبال ضيفاتها من نساء المدينة وزوجات الأعيان ، والدّادة مسعودة لا تفارقها ، فتتولى مهمة تقديم طقوس صينية الشاي ولوازمها، فلا تتوانى عنها بينما أتولى أعمال المسح والتنظيف وسقي نباتات الظل حول النافورة .
لكن زيارة أبي آخر مرة كانت مختلفة ، لمحت تقاطيع وجهه تتسع وتكشف عن ابتسامة رضا، مطأطئ الرأس يستمع إلى الحاجّة وهي تشرح له أمرا لم أتبين منه إلا قولها مبادرة أبي وهو يودعها :
- إن شاء الله سيكون حظ البتول الصغيرة أفضل لقد وعدت باشاالمدينة،وسيغدق عليك بالكثير ،أحضرها معك .
تبادر إلى ذهني وجه أختي البتول ذات الأربع سنوات، كان وجهها صغيرا جدا تتناثر حوله شعيرات شقراء ، فابتسمت وأنا أتأمل مربعات الزليج التي تغطي جدران مدخل الدار وأرضيته ، فركضت نحو الداخل مرددة:
- أخيرا سأرى أختي البتول ، البتول قادمة .
ومن يومها ، وأنا أترقب قدوم أبي واتفقد مدخل الرياض ،وأتعلل بسقي النباتات ، إلى أن سمعت هذا الصباح صوته وهو يلقي التحية ، والدّادة مسعودة تركض نحو الداخل تستدعي الحاجّة أم الغيث .
لقد عاد أبي بعد سنة وزيادة ، يرافق أختي البتول ، لم أستطع حتى ملاعبتها كما عهدنا. وجدتها صبية وتدلّت ضفيرتاها على كتفيها ،بالكاد تعرفَت عليّ فأومأت لي برأسها ولم أكن أعلم ما حل بها، كانت شاردة فاغرة فاها ، لم أتبين أهو شرود أم بلاهة تصيب أهل الجبال كلما وطئت أقدامهم سهول المدينة ؟
وككل مرة، تَسلَّم أبي أُجرة عام مُقدّم على مدخل الباب من الحاجة أم الغيث فامتدت يد تجر أختي نحو الخارج و صوت الحاجّة يهز الأركان منادية الحارس :
- تعالى يا عباس وصّل البتول الصغيرة الى رياض الباشا ، وسط المدينة .
تعليقات
إرسال تعليق