قصة قصيرة بعنوان:
حافية القدمين
أطلت برأس مثلث الشكل،وعينين واسعتين بلون السماء،وقرنين صغيرين يرتعشان كلما أومأت نحو لعبتها الأثيرة .
و رأسا القطتين اللتين تزينان مقدمتي جوربيها الصوفيين الداكنين اللذين تضعهما أمها في قدميها كل صباح ، فإنهما لا يتوانيان عن الترنح ذات اليمين وذات الشمال ، وهي مستلقية على سريرها ، جنب النافذة الكبيرة لغرفتها، الغرفة رقم ٥ قديمة قدم المشفى ، بقضاء جبيل ... بعض قطع القطن على الأرض ، و أنابيب نقل الدم و أجهزة الاوكسيجين على طاولة عتيقة ، وأزيز جهاز قياس نبضات القلب يرتفع تارة وينخفض أخرى ......وطلاء الغرفة بهت بياضه وعلته صفرة وجهها المثلث ، وفي ركن قصي من الغرفة تتمدد أمها وقد غفت، على مصطبة عليها مرتبة يغطيها رداء قطني رمادي ، والى جنبها كرة صوف وردية وسناراتان معقوفتا الرأس ، بينهما رأس قطة صوفي اسود مثلث بقرنين ورديين صغيرين يتدليان نحو أصيص مملوء بتراب أحمر داكن .....تسقيه الأم كل أسبوع بين الفينة والأخرى ، وبقي بجانبها ، وقنينة ماء فارغة ملقاة بمحاذاته.....لقد جعلها دفء نار المدفئة في الجانب الاخر من الغرفة تغمض عينيها.....في اغفاءة خفيفة فسقطت خيوط الصوف الوردية من بين يديها .......
كانت ليالي الشتاء في منطقة جبيل ضواحي بيروت ، بطيئة مرهقة ، تغطي الثلوج الجبال المجاورة ، وتعصف رياح المتوسط باردة ، كماعصفت الحرب بالحياة عصفا .....الشوارع مهجورة والمحلات مغلقة ...ولا يسمع في المشفى الا صفير شجر الأرز الذي يحيط بالمبنى ....وأنين المرضى ....في الحجرات المجاورة ......
لكن صباح ذلك اليوم من أوائل شهر شباط ، أحست ريم الصغيرة بخيوط الشمس الدافئة تكتسح غرفتها وقد اخترقت زاوية النافذة ، فرسمت مثلثا يضيئ سريرها ، فتحرك رأسا القطتين بمقدمة جوربيها ...ابتسمت لهما ابتسامة عليلة وهي تنادي بصوت واهن :
- أمي ...أمي ....أمي
الشمس في غرفتنا .....
انتبهت أم ريم من غفوتها ، وتفاجأت عيناها بأشعة الشمس، فأغمضتهما ثانية وهي تتساءل :
- ما بك يا ريم ..!!؟؟ ما بك يا ابنتي ...؟
قامت منتفضة نحوها تتحسس قدمي الصغيرة ، وجلست على طرف سريرها ، تدلكهما كما تعودت كل يوم .....لكن ريم لا تحس بهما منذ خمس سنوات ، لقد كانت تلعب في صحن الدار حين وقعت قذيفة قوية بالحديقة ، فأصابتها شظية أوقعتها طريحة الفراش منذ ١٩٨٦..، كان عمرها ثلاث سنوات
وهاهي الحرب في لبنان قد انتهت منذ سنة ....وريم وأمها تقبعان بين جدران هذا المشفى القديم ، تلتمسان العلاج من أجهزة تهالكت وأطباء هجروا البلاد الى وجهة غير معروفة ....
تحسست الأم قدمي الصغيرة وهي تردد :
- لقد أوشكت على صنع جوربين جديدين يا صغيرتي ....تريدين جوارب برأس قطة أسود وقرنين ورديين ؟ أليس كذلك يا حبيبتي ؟
ثم انحنت نحو القدمين الصغيرتين الهامدتين الباردتين كالرخام تقبّلهما ... وتقلّبهما بين يديها ..... امتدت يد الممرضة تجذبها من الخلف وتُرَبّت على كتفها هامسة :
- العمر لك أختي ...
ثم القت بالغطاء الأبيض الناصع على جسد الصغيرة .....
لا يزال جورب يتيم برأس قط مثلث الشكل و بقرنين ورديين ، معلقا على مِقبض نافذة الغرفة رقم ٥، بمشفى قضاء جبيل يترنح ذات الشمال وذات اليمين كلما فتح باب الغرفة .

مميزة
ردحذف